الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 25، 2025

أساطير رقمية في زمن الإنترنت: من الميم إلى الحكاية الشعبية المعاصرة: عبده حقي


في قلب الثورة الرقمية، برزت ظاهرة جديدة يمكن تسميتها بـ"الفولكلور الرقمي"، أي تلك البنية السردية والرمزية التي تولد من رحم الإنترنت، وتعيد إنتاج تقاليد الحكاية الشعبية لكن بلغة الصور المتحركة، الفيديوهات القصيرة، والنكات السريعة. وكما كان القدماء يتوارثون الأساطير عبر السرد الشفهي حول النار، فإن أجيال اليوم تتناقل الميمات (Memes) على منصات التواصل الاجتماعي بسرعة البرق، لتصبح أساطير معاصرة تترسخ في الذاكرة الجماعية.

يتجلى هذا الفولكلور الرقمي في أشكال متعددة. الميم، على سبيل المثال، لم يعد مجرد صورة ساخرة، بل أصبح بنية سردية تختزل تعقيد الواقع في ومضة من الفكاهة أو النقد. تمامًا كما درس رولان بارت في كتابه Mythologies (1957) آليات تشكّل الأسطورة في المجتمع الاستهلاكي الفرنسي من خلال صور وإعلانات، يمكن قراءة الميم اليوم باعتباره شكلاً أسطورياً معاصراً، يحول حدثًا عابرًا أو صورة عادية إلى رمز يتجاوز زمانه ومكانه.

الفيديوهات تمثل بدورها امتدادًا للأساطير الشعبية، إذ تنتشر كما كانت تنتشر الحكايات القديمة في الأسواق والقرى، وتُحاط بقدر من الغموض والتهويل. مثال ذلك قصص "تحديات الإنترنت" التي غزت العالم مثل تحدي "دلو الثلج

" (Ice Bucket Challenge) أو "مومو" التي اتخذت شكل الأسطورة المخيفة التي تُنقل شفهياً لترويع الصغار. هنا يصبح الإنترنت ليس فقط ناقلاً للحكاية، بل فضاءً يبتكر أساطيره الخاصة، جامعًا بين المتعة والخوف، بين الحقيقة والخيال.

هذا الفولكلور الجديد يعكس حاجة الإنسان المستمرة إلى خلق رموز مشتركة، حتى في فضاء رقمي يُفترض أنه عقلاني وتقني. ففي بيئة تتسم بسرعة فائقة وتغيّر مستمر، تمنح الميمات والأساطير الرقمية الأفراد شعورًا بالانتماء إلى مجتمع رمزي أوسع، يضحكون معًا، يسخرون معًا، ويصنعون ذاكرة مشتركة تتجاوز الحدود الجغرافية. وكما يوضح هنري جنكينز في كتابه  Convergence Culture (2006)، فإن الثقافة التشاركية هي السمة الأساسية لعصر الإعلام الجديد، حيث يتحول الجمهور إلى منتج للنصوص الرمزية لا مجرد مستهلك.

لكن هذه الظاهرة لا تخلو من إشكالات. فكما كانت الأسطورة قد تُستغل لتبرير السلطة أو إخفاء الحقيقة، يمكن أن تُستعمل الأساطير الرقمية لنشر التضليل أو تعزيز خطاب الكراهية. نظريات المؤامرة على الإنترنت ـ مثل "الأرض المسطحة" أو "نظرية المؤامرة حول كوفيد-19" ـ صارت هي الأخرى أساطير رقمية تكتسب قوة من كثافة تداولها، رغم افتقارها إلى الأسس العلمية.

الفولكلور المغربي بين الأمس والآن

لتوسيع دائرة التحليل، يمكن النظر إلى التجربة المغربية في مجال الفولكلور التقليدي، حيث لعبت الحكايات الشعبية والأمثال والأغاني الشفوية دوراً مركزياً في تشكيل المخيال الجمعي. في الأسواق الشعبية والسهول والجبال، كان الحكواتي يحكي قصص سيدي حمو أو حكايات "أيت بعمران" و"أحيدوس"، وهي نصوص سردية لم تكن مجرد تسلية، بل وسيلة لنقل الحكمة، وتربية الحس الجمعي، وحماية الذاكرة الجماعية من التلاشي.

تُشبه هذه الوظيفة إلى حد بعيد دور الميمات في العالم الرقمي. فكما كانت الحكاية الشعبية المغربية تحمل رمزيات متوارثة وتُروى بأداء يجمع بين الكلمة والإيماءة، كذلك الميم الرقمي يعتمد على الصورة والنص المختصر والتكرار الجماعي. كلاهما يختزل تجربة جماعية معقدة في شكل بسيط يسهل تداوله وحفظه.

على سبيل المثال، نجد في الحكاية الشعبية المغربية شخصية "الغول"، التي تمثل الخوف الجمعي من المجهول والتهديدات الخارجية. في المقابل، يظهر في الفولكلور الرقمي المغربي ميمات تسخر من "الغول السياسي" أو "الغول الاقتصادي"، في إعادة صياغة معاصرة لرمزية قديمة. كذلك، ما يُتداول من نكات ساخرة حول غلاء المعيشة أو مباريات كرة القدم الكبرى يشبه تمامًا الأمثال الشعبية التي كانت تختزل التجارب اليومية في جملة موجزة مثل "اللِّي ما عندو هم تولدو ليه حمارتو".

تلاقي العابر والدائم

إن المقارنة بين الفولكلور التقليدي المغربي والفولكلور الرقمي تكشف عن خيط ناظم: الحاجة إلى بناء لغة رمزية مشتركة. في الماضي، كانت الحكايات تُروى في الأسواق والزوايا لتقريب الناس من بعضهم، واليوم تُنتج الميمات على "فيسبوك" و"تويتر" لتشكيل جماعة متخيلة من الضاحكين والساخرين. وكما أن بعض الحكايات الشعبية تجاوزت القرون لتصل إلينا اليوم، فقد نجد أن بعض الميمات الأكثر رسوخًا ـ مثل تلك التي ارتبطت بأحداث سياسية مفصلية أو بكوارث طبيعية ـ ستصبح جزءًا من الأرشيف الثقافي الذي يستحق الدراسة والتوثيق.

وهكذا يتضح أن الإنترنت، رغم حداثته، لم يقطع مع الموروث الشعبي، بل أعاد صياغته بلغة تناسب السرعة والبصرية والانتشار الفيروسي. إن الفولكلور الرقمي ليس بديلاً عن الفولكلور التقليدي، بل امتداد له في سياق جديد، يؤكد أن حاجة الإنسان إلى الحكاية والأسطورة ثابتة، وإن اختلفت الوسائط. وكأن الميم هو "الحكواتي العصري" الذي لا يجلس في ساحة جامع الفنا، بل في شاشة الهاتف المحمول، ليحكي قصته للعالم بأسره.

0 التعليقات: