ما زالت هناك مساحات شاسعة من العالم تعيش في "ظلام رقمي". هذا الظلام لا يُقاس فقط بعدم القدرة على تصفح الأخبار أو مشاهدة الفيديوهات، بل هو انقطاع عن الذاكرة الجمعية للإنسانية، حيث تتوارى هذه المجتمعات خلف جدار غير مرئي، وكأنها غير موجودة في سجل الحاضر.
يشير تقرير اليونسكو لعام 2023 حول "الفجوة الرقمية العالمية" إلى أنّ أكثر من 2.6 مليار إنسان لا يزالون خارج فضاء الإنترنت، معظمهم في إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا. هؤلاء لا يملكون الوسائل التقنية ولا البنية التحتية التي تسمح لهم بالمشاركة في "الحوار الكوني" الذي تصنعه الشبكات الاجتماعية والمنصات الإعلامية. وهنا يبرز السؤال المؤلم: ما معنى أن تكون إنساناً في عصر رقمي، إذا لم يكن لك أثر رقمي؟
الفراغ الإعلامي: غياب
الصوت وحضور الصورة
قد يبدو أن المجتمعات
غير المتصلة بالإنترنت غائبة كلياً، لكن المفارقة أن حضورها الإعلامي يتم غالباً عبر
عدسات الآخرين. فهي لا تملك منصات تعبّر من خلالها عن نفسها، لكن صورها تُنقل إلى العالم
في لحظات محددة: مجاعة، نزاع مسلح، كارثة طبيعية. تتحول عندئذٍ إلى "أيقونات إنسانية"
عابرة للمنصات، لكنها أيقونات بلا صوت. وكما يوضح إدوارد سعيد في الاستشراق، فإن تصوير
الآخر في الخطاب الغربي لم يكن يوماً بريئاً، بل شكّل أداة لتثبيت الهيمنة.
خذ مثلاً مناطق النزاع
في إفريقيا الوسطى. فبينما يَصِل صوت بعض النخب السياسية أو منظمات المجتمع المدني
عبر تقارير أممية أو مداخلات في الإعلام الغربي، يظل ملايين السكان مجهولي الملامح،
يُقدَّمون فقط كضحايا بلا أسماء. هنا يتجسد "المحو الرقمي": وجود جسدي يُختزل
في صورة فوتوغرافية، وغياب كامل عن فضاء التعبير الذاتي.
الحقوق الرقمية كامتداد
للحقوق الإنسانية
منذ صدور الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان عام 1948، تم تكريس حرية الرأي والتعبير كحق أساسي. واليوم، لم يعد هذا
الحق قابلاً للفصل عن الحق في الوصول إلى الإنترنت. في عام 2016، اعتمد مجلس حقوق الإنسان
التابع للأمم المتحدة قراراً يساوي بين الحق في الاتصال الرقمي وحرية التعبير التقليدية.
ومع ذلك، تظل الفجوة قائمة، وكأن ثلث سكان العالم يعيشون في زمن ما قبل الرقمنة.
اللافت أن بعض الأنظمة
السياسية قد تستثمر في هذا الغياب. فحرمان السكان من الإنترنت في مناطق معينة ليس دوماً
مسألة ضعف بنية تحتية، بل قد يكون خياراً سياسياً. فالهند، مثلاً، سجّلت أعلى معدل
لقطع الإنترنت على الإطلاق في السنوات الأخيرة، خاصة في إقليم كشمير. وفي ميانمار،
استخدم الجيش انقطاع الإنترنت كأداة لقمع التظاهرات. هنا يصبح "المحو الرقمي"
سياسة مقصودة لتغييب روايات الناس وحرمانهم من التضامن العالمي.
الاقتصاد والهوية:
آثار التهميش الرقمي
لا يقف أثر الانقطاع
عند حدود الإعلام والسياسة، بل يمتد إلى الاقتصاد والهوية الثقافية. ففي تقرير للبنك
الدولي عام 2022، تبيّن أن الدول ذات نسب الاتصال المنخفضة بالإنترنت تعاني فجوة تنموية
متفاقمة، حيث تحرم مجتمعاتها من فرص التجارة الإلكترونية والتعليم الرقمي والخدمات
المالية عبر الهاتف المحمول.
لنأخذ مثالاً من المغرب:
بينما يشهد الشريط الساحلي الممتد من طنجة إلى أكادير تغطية واسعة للإنترنت، ما تزال
بعض القرى في جبال الأطلس محرومة من الاتصال الجيد. هذا الحرمان يُنتج شعوراً متزايداً
بالهامشية، ويعمق الهوة بين "مغرب متصل" و"مغرب معزول". وهو ما
يثير نقاشاً حول العدالة المجالية والحق في التنمية الرقمية.
في إفريقيا جنوب الصحراء،
يشكّل غياب الاتصال بالإنترنت حاجزاً أمام تسجيل التراث الثقافي الشفهي. فبينما تستثمر
اليونسكو ومراكز البحوث في رقمنة التراث غير المادي، تفقد المجتمعات غير المتصلة فرصة
تقديم روايتها الذاتية. وكأن هويتها الثقافية تُكتب عنها من الخارج، لا من الداخل.
هذا يعيدنا إلى مقولة والتر بنيامين عن "فقدان الهالة": حين يُسلب الشيء
سياقه الأصلي ويُعاد إنتاجه في سياق آخر، يفقد جزءاً من أصالته.
الإعلام البديل والمبادرات
الدولية
في مواجهة هذا الواقع،
ظهرت مبادرات بديلة تسعى إلى كسر العزلة الرقمية. مشروع "ستارلينك" الذي
أطلقه إيلون ماسك لتوفير الإنترنت عبر الأقمار الصناعية يُقدَّم كحل عالمي، لكن انتقاداته
عديدة: الكلفة العالية، هيمنة الشركات الخاصة، واحتمال تحول الخدمة إلى أداة جيوسياسية.
وفي المقابل، تطلق بعض الحكومات مشاريع وطنية لتوسيع البنية التحتية الرقمية، مثل مبادرة
"القرية الذكية" في مصر، أو "المغرب الرقمي" التي تهدف إلى تعزيز
العدالة في الولوج إلى الإنترنت.
لكن نجاح هذه المبادرات
يظل نسبياً. ففي أماكن مثل هايتي أو مدغشقر، تُهدد الكوارث الطبيعية أي بنية تحتية
قائمة، لتعيد المجتمعات إلى نقطة الصفر. وهنا يتضح أن "المحو الرقمي" ليس
مجرد مسألة تقنية، بل هو أيضاً نتاج هشاشة سياسية واقتصادية وبيئية.
الأرشيف الكبير والغياب
المدوّن
لا يمكن تجاهل أن الإنترنت
بات "أرشيفاً كبيراً" لتاريخ البشرية، حيث تُكتب الأحداث لحظة بلحظة. غير
أن المجتمعات غير المتصلة تُستثنى من هذا الأرشيف، وكأنها لم توجد. جورج أورويل في
1984 أشار إلى خطورة التحكم في السرد التاريخي: من يسيطر على الأرشيف يسيطر على الذاكرة.
وهكذا، يصبح محو المجتمعات رقمياً شكلاً من أشكال الإقصاء المسبق من المستقبل.
وما يزيد الطين بلة
أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يعتمد في تدريبه على بيانات الإنترنت. وبما أن هذه المجتمعات
غير ممثلة في تلك البيانات، فإن سرديتها تغيب أيضاً عن مستقبل الذكاء الاصطناعي. بمعنى
آخر، يُعاد إنتاج التهميش على مستوى تقني أكثر تعقيداً: مجتمعات غير ممثلة في النصوص،
وبالتالي غير مرئية في تقارير أو تحليلات أو حتى صور تُنتجها أنظمة الذكاء الاصطناعي.
نحو عدالة رقمية
الحل لا يكمن فقط في
مدّ الكابلات أو إطلاق الأقمار الصناعية، بل في مقاربة شاملة تعتبر الاتصال الرقمي
حقاً كونياً. كما كانت محاربة الأمية شرطاً للتحديث في القرن العشرين، فإن ردم الهوة
الرقمية اليوم يجب أن يُعتبر مشروعاً حضارياً.
لا يكفي أن تُترك هذه
المهمة للشركات العالمية. المطلوب سياسات وطنية تضع العدالة الرقمية في قلب التنمية،
وبرامج دولية تتعامل مع الاتصال كحق لا كخدمة تجارية. تجربة الاتحاد الأوروبي في إدراج
"الحق في الاتصال الرقمي" ضمن النقاشات الحقوقية تمثل خطوة أولى، لكنها لا
تزال محصورة في السياق الأوروبي. العالم بحاجة إلى معاهدة أممية تُكرّس الحق في الإنترنت
على غرار معاهدات محاربة التمييز العنصري أو حماية البيئة.
خاتمة: حضور أم غياب؟
في النهاية، يظل السؤال
قائماً: كيف يمكن للمجتمعات أن تكتب وجودها في زمن رقمي إن لم يكن لها أثر رقمي؟ إن
حرمان ثلث البشرية من الإنترنت ليس مجرد مسألة تقنية أو اقتصادية، بل هو مسألة وجودية.
فالمحو الرقمي يعني محواً من التاريخ، من الأرشيف، ومن المستقبل.
ولعل أبلغ استعارة
لهذا الوضع ما قاله الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في حديثه عن العزلة:
"العالم لا ينتهي عندما يتوقف المرء عن الكلام، بل عندما لا يجد أحداً ليسمعه."
إن المجتمعات الممحوة رقمياً تجد نفسها في هذا المأزق: لديها الكثير لتقوله، لكن لا
أحد يسمعها، لأن صوتها لا يعبر أسلاك الإنترنت ولا يترك أثراً في أرشيف الحاضر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق