تشكل مسألة القدرة أو ability إحدى القضايا المركزية في الفلسفة المعاصرة، إذ ترتبط بفهمنا لما يمكن للإنسان فعله، وما يعجز عن إنجازه، وما يقع بين هذين الحدين من إمكانات معلقة على الظروف والنيات. المقال الذي خصصته «الموسوعة الفلسفية لستانفورد» لهذا المفهوم يفتح أفقاً نقدياً عميقاً أمام الباحث في الفلسفة والعلوم الإنسانية، إذ لا يكتفي بتعريف القدرة تعريفاً سطحياً، بل يسائلها في ضوء تصنيفات دقيقة ونظريات متباينة ومجالات تطبيقية متشابكة.
القدرة بين القوة والإمكان
يبدأ النقاش بالتمييز
بين عدة مفاهيم متجاورة: القوة (power)، الاستعداد أو النزعة (disposition)، الإمكانات التي يتيحها المحيط
(affordances)، ثم القدرة ذاتها. فالقدرة ترتبط دائماً بالفعل
الإنساني، أي أنها ليست مجرد خاصية فيزيائية أو استعداد ميكانيكي، بل هي إمكانية فعلية
تُمكّن الإنسان من أداء فعل محدد. وهنا يظهر الفرق بين القدرة العامة، مثل قولنا إن
شخصاً ما يستطيع العزف على البيانو، والقدرة الخاصة المرتبطة بلحظة ظرفية معينة، كأن
يُتاح له العزف فعلاً الآن وهو جالس أمام الآلة.
التحليل الشرطي للقدرة
التصور الكلاسيكي الذي
سيطر طويلاً في الفلسفة يُعرَف بـ النظرية الشرطية: أي أن الفرد يملك القدرة على القيام
بفعل ما إذا كان سينجح في إنجازه بمجرد أن يحاول. لكن هذا التعريف البسيط واجه اعتراضات
عديدة، فهناك حالات نفسية أو اجتماعية قد تجعل المحاولة غير كافية للنجاح، مما يضعف
التحليل الشرطي. وقد دفعت هذه الإشكالات بعض المفكرين إلى اقتراح صيغ معدلة أكثر دقة،
أو إلى ربط القدرة بمفهوم الاستعدادات الذهنية والجسدية لا بالمحاولة وحدها.
النظريات غير الشرطية
على الضفة الأخرى،
برزت النظريات المعيارية أو المودالية التي تعتبر القدرة شكلاً من أشكال الإمكان: أي
أن القول بأن شخصاً لديه قدرة هو إقرار بأن ثمة عالماً ممكناً يكون فيه قادراً على
الإنجاز. غير أن هذا التصور بدوره يثير إشكالات منطقية، إذ لا تنطبق القواعد المألوفة
للإمكان الميتافيزيقي دائماً على مفهوم القدرة الإنسانية. من هنا اتجه بعض الفلاسفة
إلى تطوير مفاهيم بديلة، مثل القدرات الثنائية الاتجاه التي تشير إلى إمكان الفعل وإمكان
عدم الفعل معاً، أو مفهوم الإمكانات المفتوحة التي تتجاوز الحسابات الصارمة للعوالم
الممكنة.
رهانات الحرية والإعاقة
تظهر أهمية النقاش
النظري حول القدرة في مجالين أساسيين:
أولهما الحرية والإرادة:
فالبحث في ما إذا كان الإنسان قادراً حقاً على الاختيار، أم أن أفعاله محددة سلفاً
بالظروف، هو قلب جدل الحرية والحتمية.
ثانيهما الفلسفة الاجتماعية
للضعف والإعاقة: إذ تُستخدم فكرة القدرة لتحديد معنى العجز، وللتفريق بين ما هو قصور
ذاتي في الجسد أو الذهن، وما هو عائق خارجي فرضه المجتمع أو البيئة.
بين النظرية والحياة
اليومية
تكشف هذه التحليلات
أن مفهوم القدرة ليس مجرد مصطلح نظري، بل هو أداة لفهم تجارب البشر اليومية: من إمكان
النهوض في وجه الظلم، إلى القدرة على التعلم والإبداع، أو العجز عن ممارسة أبسط الحقوق
بسبب قيود خارجية. بهذا المعنى، تتحول الفلسفة إلى مرآة تكشف أن القدرات ليست مطلقة،
وإنما تتشكل دوماً عند نقطة التقاء بين الفرد والظرف، بين الإرادة والعالم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق