يأتي كتاب «يد تكاد تلوّح» للشاعر والمصور جون سوانسون كتجربة فنية فريدة تمزج بين الشعر والتصوير الفوتوغرافي، ليقدّم للقارئ نصاً بصرياً ولغوياً في آن واحد. فالكتاب ليس مجرد ديوان شعري أو ألبوم صور، بل هو حوار صامت بين الكلمة والصورة، بين اللحظة العابرة والذاكرة التي تسعى إلى تثبيتها في الزمن.
منذ الصفحات الأولى، يشعر القارئ أن النصوص الشعرية لا يمكن فصلها عن الصور المرافقة لها. فالمشاهد الملتقطة من شوارع فانكوفر وباريس لا تُعرض بوصفها توثيقاً بصرياً للحياة اليومية فقط، وإنما تتحول إلى فضاءات موازية للقصائد، تضيف إليها معنى وتفتح احتمالات جديدة للتأويل. هكذا يصبح كل نصّ دعوة للتأمل في ما يتوارى خلف المشهد العابر: يد ممدودة، ظلّ يتكسر على الجدار، أو وجه غريب يختفي في الزحام.
يحتلّ الزمن موقعاً
مركزياً في هذا الكتاب، إذ يتنقل القارئ بين طفولة الشاعر وتجارب شبابه وما رافقها
من ألم ومرض، وصولاً إلى تأملات ناضجة في الحب والشيخوخة. الزمن هنا ليس خطاً مستقيماً،
بل تيار متعرج يستحضر الماضي في قلب الحاضر، ويحوّل الذكرى إلى مساحة للتفكير في ما
يبقى وما يزول.
يظهر ذلك جلياً في
مقاطع تتأمل فكرة الشفافية والفراغ والبحث عن الشكل. وكأن الشاعر يسعى لأن يكتب ما
لا يُمسك، وأن يمنح للحظات المنفلتة هيئة شعرية تبقى بعد زوالها.
الحب والالتزام الإنساني
يضمّ الكتاب قصائد
حبّ ناضجة، تستمد قوتها من تجربة حياة مشتركة امتدت لعقود طويلة. هذه النصوص تبتعد
عن الغنائية المفرطة، لتقترب من صدق التجربة الإنسانية، حيث يُحتفى بالحبّ كقيمة مقاومة
للزوال، وكسند في مواجهة الوحدة والشيخوخة. اللغة هنا متأملة، صافية، تخلو من التزويق
العاطفي، لكنها مشحونة بكثافة شعورية نابعة من العمق لا من الزينة.
الطبيعة والمدينة
يتنقل الشاعر بين الطبيعة
والمدينة في مسافة متوترة، إذ تحضر الأشجار والغابات والمطر جنباً إلى جنب مع الأرصفة،
المقاهي، وجوه العابرين. الطبيعة تمثل الفضاء البريء والشفاف، بينما تعكس المدينة صخب
الحياة اليومية ووجوهها المتعددة. لكن كلاهما يشكلان خلفية لرحلة وجودية تبحث عن معنى،
حيث تتحول أبسط التفاصيل إلى علامات تستحق التأمل.
لا يبتعد الكتاب عن
مواجهة الخسارة والفقدان. فالموت والغياب حاضران في أكثر من نص، لكن الحزن لا يُقدّم
كقدر مغلق، بل كطريق يقود إلى فهم أعمق للحياة. إنّه شعر يواجه الجدار دون استسلام،
ويصر على العثور على فسحة ضوء مهما كانت ضيقة.
أحد أجمل ملامح هذا
العمل هو احتفاؤه باليومي العابر: مشية عابر سبيل، لحظة انتظار في محطة، أو لقاء عابر
بين عينين. تلك التفاصيل الصغيرة تتحول بين يدي الشاعر إلى معانٍ كونية، وكأنها تذكّر
القارئ بأن الحياة تُصنع من الفتات، من اللحظات التي نظنها عابرة بينما تختزن جوهر
وجودنا.
«يد تكاد تلوّح» ليس كتاباً يُقرأ فحسب، بل
يُعايَش كرحلة حسية وفكرية. الصور تفتح مجالاً للبصر كي يرى ما وراء الأشياء، والقصائد
تتيح للغة أن تلتقط ما يتجاوز البصر. إنه عمل عن الذاكرة والزمن، عن الحبّ والخسارة،
عن مقاومة هشاشة الحياة بشفافية الشعر وعدسة الكاميرا. وفي النهاية، يدرك القارئ أن
اليد التي تلوّح في العنوان ليست سوى استعارة عن الحياة نفسها، تلك التي تمضي مبتعدة
لكنها تظل تدعونا إلى أن نلحق بها ونصغي لندائها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق