يُختزل ما يُعرف في الأدبيات الفكرية والفلسفية بـ "المأزق الإفريقي" في مجموعة من التحديات المركّبة التي تواجه القارة السمراء، والتي تتقاطع فيها رواسب الماضي الاستعماري مع تعقيدات الحاضر السياسي والاجتماعي والثقافي. إنه ليس مجرد وصف لحالة من العجز، بل هو إطار لفهم شبكة من الأزمات المتشابكة التي تكبّل إمكانات النهضة، وتضع الأفارقة أمام سؤال المصير: كيف يمكن تجاوز هذه العقد التاريخية لتحقيق انعتاق حقيقي؟
من أبرز أبعاد هذا
المأزق استمرار التبعية الاقتصادية للمؤسسات العالمية، مثل البنوك الدولية والمنظمات
المالية، التي تفرض برامج إصلاح لا تخدم إلا مصالح القوى الكبرى. فالعديد من السياسات
الاقتصادية في القارة يتم تصميمها خارج إرادتها، ما يكرّس التفاوت ويضعف القدرة على
تحقيق تنمية ذاتية. وإلى جانب ذلك، تُثقل أزمة القيادة كاهل القارة؛ إذ غالباً ما يفتقد
كثير من القادة للرؤية أو تنخرط بعض الأنظمة في الفساد والاستبداد، ما يجعل الشعوب
رهينة صراعات السلطة بدل أن تكون شريكاً في البناء.
يمثل التعليم وجهاً
آخر للأزمة؛ فهو في معظم دول القارة نسخة مشوّهة عن النموذج الغربي، لا يعكس هوية الأفارقة
ولا يدرّس تاريخهم إلا في حدود ضيقة. هذا النقص في الاعتراف بالماضي يخلق ما يسميه
البعض "الأمية التاريخية"، حيث يُمحى من الذاكرة الجماعية كل ما يمكن أن
يكون مصدر قوة وفخر، ويُستبدل بمرويات تضع القارة على هامش التاريخ.
لا يقتصر الأمر على
الاقتصاد والتعليم، بل يمتد إلى الفكر ذاته. إذ طالما سادت أطروحات ترى أن إفريقيا
بلا تاريخ أو فلسفة، وأنها مجرد فضاء بدائي. هذه النظرة الاستعلائية حجبت مساهمات الفلاسفة
والمفكرين الأفارقة، وأرست رؤية أحادية للتاريخ والفكر، تعيد إنتاج المركزية الأوروبية
وتُقصي الأصوات المحلية.
من النتائج المباشرة
لهذه الهيمنة بروز أزمة هوية عميقة لدى الأفارقة. فالكثير منهم يجد نفسه بين مطرقة
استلاب ثقافي يحاكي الغرب، وسندان فقدان الثقة في الذات. هذا الاغتراب يعزز شعوراً
بالنقص، ويفتح المجال أمام إعادة إنتاج الصور النمطية التي رسّخها الاستعمار، في حين
يصبح الانتماء إلى الجذور مجرد ترف ثقافي لا سند له في السياسات الرسمية.
يشكّل الدين، وخاصة
المسيحية التي دخلت مع الاستعمار، ساحة أخرى للتوظيف السياسي. فبدل أن يكون الدين قوة
روحية محرّرة، استُعمل في كثير من الحالات لتبرير الاسترقاق والتبعية، مما جعله جزءاً
من منظومة السيطرة. هذا البعد يسلط الضوء على خطورة اختلاط العقيدة بالسياسة الاستعمارية،
وعلى الحاجة إلى إعادة قراءة الدين بعيداً عن الأدلجة التي خدمته كأداة استعمارية.
إن المخرج من هذا المأزق،
كما يشير العديد من المفكرين، يبدأ بتحرير الوعي الإفريقي من قيود "الاستعمار
الذهني". فالمطلوب ليس مجرد إصلاحات سياسية أو اقتصادية، بل ثورة معرفية وثقافية
تعيد للأفارقة ثقتهم بذاتهم وتاريخهم وقيمهم. وتشمل هذه الثورة إصلاح التعليم ليعكس
الهوية الإفريقية، وإرساء قيادات رشيدة تعكس إرادة الشعوب، وتعزيز التعاون القاري للحد
من التبعية الخارجية.
المأزق الإفريقي ليس
قدراً محتوماً، بل هو نتاج مسار طويل من التلاعب الخارجي والاختلالات الداخلية. وإذا
كانت القارة قد دفعت ثمناً باهظاً للاستعمار، فإن التحدي اليوم يكمن في تجاوز عقد الماضي
وتشييد مستقبل على أساس الحرية والكرامة والوعي التاريخي. فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط
بإرادة التحرر من الآخر، بل أيضاً بالقدرة على مصالحة الذات مع ذاتها، وبناء مشروع
حضاري إفريقي متكامل قادر على إعادة صياغة العلاقة مع العالم من موقع الندية، لا التبعية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق