تُثار بين الفينة والأخرى نقاشات واسعة في المغرب حول التوترات التي تقع بين مهاجرين أفارقة من دول جنوب الصحراء في بعض الأحياء الحضرية الكبرى، كما هو الحال في الدار البيضاء. هذه الأحداث، وإن بدت في ظاهرها أمنية مرتبطة بالازدحام أو صدامات عابرة، فإنها تفتح الباب أمام نقاش سياسي أوسع حول طبيعة السياسة المغربية تجاه المهاجرين الأفارقة ومكانتها في الرؤية الاستراتيجية للمملكة.
منذ أكثر من عقد، اختار
المغرب أن يقطع مع المقاربة الأمنية الصرفة في تدبير الهجرة، ليتبنى سياسة إنسانية
تُقدِّم المهاجر كفاعل اجتماعي له حقوق وواجبات. فقد أطلقت المملكة برامج واسعة لتسوية
أوضاع عشرات الآلاف من المهاجرين غير النظاميين، حيث استفاد ما يقارب 50 ألف مهاجر
من تسوية قانونية لوضعيتهم، مما منحهم الحق في العمل، والاستفادة من التعليم والصحة،
والانخراط في النسيج الاجتماعي. هذه المبادرة لم تكن محلية فقط، بل قدمها المغرب كـ"مبادرة
رائدة" داخل الاتحاد الإفريقي، مما منح المملكة مكانة خاصة في رسم سياسات الهجرة
على المستوى القاري.
صحيح أن التوترات بين
بعض المهاجرين والسكان المحليين تثير قلقًا مشروعًا، لكنها تكشف أيضًا حجم العبء الذي
يتحمله المغرب بمفرده. فالمملكة ليست بلد استقبال نهائي في معظم الحالات، وإنما بلد
عبور نحو أوروبا، ما يجعلها تتحمل كلفة اجتماعية وأمنية واقتصادية مضاعفة. ورغم ذلك،
لم تنزلق إلى خيار الترحيل الجماعي أو الإقصاء الممنهج، بل واصلت سياسة إدماج تدريجي
تحترم كرامة المهاجرين.
السياسة المغربية تجاه
المهاجرين الأفارقة ليست فقط مبادرة حقوقية، بل هي رهان استراتيجي على المستقبل. فالاندماج
المنظم لهؤلاء المهاجرين قد يحولهم إلى طاقة اقتصادية منتجة بدل أن يبقوا عبئًا اجتماعياً.
لهذا يُطرح إنشاء مراكز استقبال، وتعميم برامج التكوين المهني، وإتاحة فرص عمل قانونية،
باعتبارها الحل الأمثل لدمج الوافدين وتحويلهم إلى جزء من دورة التنمية.
رغم جهود المغرب، تظل
الإمكانيات محدودة أمام التدفقات المستمرة. لذلك، فإن دعوة الرباط إلى دعم دولي أوسع،
خصوصًا من الشركاء الأوروبيين، تعكس وعياً استراتيجياً بأن قضية الهجرة ليست مسؤولية
بلد عبور فقط، بل هي تحدٍّ مشترك يحتاج إلى مقاربة جماعية. المغرب، بحكم موقعه الجغرافي
وصلاته الإفريقية، يقدم نموذجًا للتوازن بين البعد الإنساني والواقعي، لكنه يرفض أن
يكون "شرطي الحدود" لصالح أوروبا دون مقابل تنموي عادل.
ما يجري اليوم في بعض
الأحياء المغربية من مواجهات عابرة لا يجب أن يُقرأ كفشل للسياسة المغربية، بل كإشارة
إلى حجم الضغوط التي تواجهها. فالمغرب يظل أحد البلدان القليلة في المنطقة التي اختارت
أن تجعل من المهاجر الإفريقي شريكًا في الحياة اليومية، لا مجرد عابر غير مرئي. وهي
سياسة تحمل في طياتها رسالة واضحة: أن المغرب، بحكم عمقه الإفريقي والتزامه بالبعد
الإنساني، يصر على أن يظل جسرًا للتضامن والاندماج بدل أن يتحول إلى جدار صد.
أمثلة عملية على المبادرات
المغربية في مجال الهجرة والاندماج
برامج تسوية الأوضاع
القانونية (2014 و2017): استفاد منها حوالي 50 ألف مهاجر من جنوب الصحراء، في إطار
سياسة وطنية للهجرة واللجوء.
الاستراتيجية الوطنية
للهجرة واللجوء (2013): أول خطة عربية وإفريقية شاملة، ركزت على التعليم، الصحة، السكن،
والتشغيل.
إنشاء المرصد الإفريقي
للهجرة في الرباط (2020): تحت رعاية الاتحاد الإفريقي وبمبادرة من الملك محمد السادس،
لتنسيق السياسات القارية للهجرة.
اتفاقيات مع الاتحاد
الأوروبي: بخصوص الدعم المالي واللوجيستيكي لتدبير الهجرة، مع تركيز على التنمية المحلية
بدل الحلول الأمنية فقط.
برامج التعليم والصحة:
إدماج آلاف التلاميذ والطلبة الأفارقة في المدارس المغربية، وضمان ولوجهم إلى المستشفيات
العمومية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق