الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 06، 2025

كيف نكتب عن الثورة التكنولوجية؟ عبده حقي


أستعيد بهذا الصدد ما قاله مانويل كاستلز في كتابه شبكات الغضب والأمل، حين وصف الإعلام الرقمي بأنه "مرآة مشوهة ولكنها لا غنى عنها لفهم حاضرنا". وأشعر أن ما يصدق على السياسة والاجتماع ينطبق أيضاً على تغطية الابتكارات التكنولوجية، حيث تتحول الصحافة الرقمية إلى مختبر جديد لاكتشاف اللغة المناسبة لمواكبة تسارع المعرفة.

لم يعد الصحفي مجرّد راوٍ للأحداث، بل أصبح شبيهاً بعالم أنثروبولوجيا يعيش بين شيفرات الذكاء الاصطناعي ومفردات الحوسبة السحابية، ينقلها بلغة قريبة من الجمهور دون أن يفرّط بالدقة العلمية. إن التحدي يكمن في أن التكنولوجيا تسبقنا دوماً بخطوة، فنبدو أحياناً كما لو أننا نلهث خلفها، نكتب عن الروبوتات بعد أن غزت المصانع، وعن الواقع المعزّز بعد أن دخل الفصول الدراسية. لكن هذا اللهاث لا يقلّل من قيمة الصحافة الرقمية، بل يضفي عليها طابعاً ملحمياً، وكأنها تركض في سباق مع الزمن.

لقد أظهرت جائحة كورونا مثالاً صارخاً على هذه الحاجة، إذ تسابقت المنصات الرقمية إلى شرح التطبيقات الصحية، والذكاء الاصطناعي المستخدم في تتبع الإصابات، واللقاحات المطوّرة في وقت قياسي. لم يكن ممكناً فهم ذلك المشهد من دون الصحافة الرقمية التي جمعت بين سرعة البث المباشر وعمق التحليل، كما فعلت منصات مثل MIT Technology Review  أو تقارير بي بي سي الاستقصائية حول تتبع البيانات الصحية.

غير أن تغطية الابتكار التكنولوجي ليست محايدة بالكامل، فهي محكومة بشبكة مصالح اقتصادية وسياسية. أحياناً أشعر أن الصحفي الرقمي يسير على حبل مشدود: من جهة هناك وعود الشركات العملاقة التي تسعى إلى تسويق منتجاتها بلغة براقة، ومن جهة أخرى هناك مسؤولية كشف الأبعاد الأخلاقية، مثل قضايا الخصوصية التي ناقشتها شوشانا زوبوف في كتابها رأسمالية المراقبة. هنا، تتحول الصحافة الرقمية إلى ساحة مواجهة بين خطاب الترويج وخطاب النقد.

ما يميز هذا النمط من الصحافة هو قدرته على تجديد أدوات السرد. المقال لم يعد وحده الوسيلة؛ فالفيديوهات القصيرة، والإنفوغرافيك التفاعلي، والبودكاست، كلها أصبحت لغات موازية. إن تغطية الابتكار التكنولوجي تشبه لوحة سوريالية: تتجاور فيها الألوان والتقنيات والبيانات لتخلق سرداً متشابكاً. وأذكر أن مجلة وايرد نجحت في ذلك عبر قصص تفاعلية تمزج بين النص والصورة والصوت لتبني تجربة قراءة تتجاوز الورق والشاشة التقليدية.

لكن يظل السؤال قائماً: كيف يمكن للصحفي أن يحافظ على المسافة النقدية وسط هذا الانبهار الجماعي بالتكنولوجيا؟ أعتقد أن الجواب يكمن في العودة إلى جوهر الصحافة بوصفها بحثاً عن الحقيقة. وكما علّمنا والتر ليبمان في كتابه الرأي العام، فإن دور الصحافة لا ينحصر في عكس الواقع كما هو، بل في تنظيمه وتقديمه في صورة مفهومة. وهذا ما يجب أن يفعله الصحفي الرقمي: أن يحوّل الابتكار المعقد إلى قصة قابلة للفهم، وأن يضيء على ما يخفيه بريق الحداثة من مخاطر.

في النهاية، أدرك أن الصحافة الرقمية ليست مجرد وسيط تقني، بل هي فضاء جديد لكتابة المستقبل. ومع كل تقرير عن الذكاء الاصطناعي أو الثورة الكوانتية، أجد نفسي كمن يخطّ سيرة حضارة تتشكل أمام عينيه. الصحافة هنا ليست تعليقاً على الحدث، بل مشاركة في صنع التاريخ، تماماً كما كان الشعراء في العصور القديمة يرافقون الملوك لتخليد لحظاتهم. الفرق أن ملوك اليوم ليسوا أشخاصاً، بل تقنيات تسعى للهيمنة على حياتنا.

مراجع مختارة:

Manuel Castells, Networks of Outrage and Hope (2012).

Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism (2019).

Walter Lippmann, Public Opinion (1922).

تقارير MIT Technology Review حول الذكاء الاصطناعي.

تغطيات BBC News الرقمية لجائحة كورونا.

0 التعليقات: