الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 14، 2025

الشعر العلمي: جدلية الجمال والمعرفة بين الإشراق والانكسار: عبده حقي


يحتلّ الشعر العلمي موقعًا متفردا في تاريخ الثقافة الإنسانية، إذ يحاول الجمع بين بعدين متباينين ظاهريًا: لغة الشعر المجبولة على الإيحاء والرمزية، ولغة العلم القائمة على الصرامة والدقة والمعاني الحقة. من هنا جاء توصيفه بـ «البريق والمآسي»، فهو من جهة يكشف عن قدرة اللغة على أن تحتضن المعرفة، ومن جهة أخرى يفضح حدود الشعر أمام منطق المعادلة والبرهان.

فكرة الشعر العلمي ليست مستحدثة خلال عصرنا الراهن. ففي العصور القديمة، نجد أن لوكراتيوس كتب ملحمته «طبيعة الأشياء» (De rerum natura) بلغة شعرية، ليبسط الفلسفة الأبيقورية وقوانين الكون. وفي التراث العربي، مارس ابن سينا وأبو العلاء المعري هذا المزج بين العلم والشعر، سواء في المنطق أو في التأمل الكوني. خلال عصر النهضة الأوروبية، واصل غاليلو وكبلر توظيف الصور البلاغية لتقريب الاكتشافات الفلكية إلى الأذهان.

أما في العصر الحديث، فقد شهدنا بروز شعراء مثل فيكتور هوغو الذين لم يترددوا في إدخال مكتشفات العلم في شعرهم، معتبرين أن الكون كتاب مفتوح على الدهشة، وأن الشعر هو اللغة الأجدر بقراءته.

تكمن قيمة الشعر العلمي في أنه لا يكتفي بوصف الظواهر، بل يمنحها معنى يتجاوز المعادلة. فالعلم يقدّم المادة الخام، بينما الشعر يمنحها روحًا. على سبيل المثال، عندما شبّه الشاعر الفرنسي أرنست رينان العلم ببحرٍ لا ينتهي، كان يترجم فكرة التراكم المعرفي إلى صورة شعرية تعكس القلق الإنساني أمام المجهول. هنا يصبح الشعر العلمي بمثابة جسرٍ رمزي بين العقل والخيال، بين المختبر والقصيدة.

رغم هذا البريق، يظل الشعر العلمي محفوفًا بالمخاطر. فإذا انغمس في التجميل البلاغي دون استيعاب حقيقي للعلم، تحوّل إلى خطاب أجوف. وإذا تشبّث بالمعرفة العلمية وحدها، ضاع الشعر بين المعادلات.

إن هذه المفارقة جعلت العديد من النقاد، مثل رومان ياكبسون، يشيرون إلى صعوبة التوفيق بين «وظيفة العلم المرجعية» و«وظيفة الشعر الجمالية». إنها مأساة مزدوجة: مأساة لغة تحاول أن تكون دقيقة ومجازية في آن واحد.

في عصرنا الحالي، حيث يفرض العلم والتكنولوجيا هيمنتهما على كل المجالات، يعود الشعر العلمي ليطرح سؤالاً جوهريًا: هل يمكن للخيال أن يظل فاعلاً أمام هيمنة الأرقام والخوارزميات؟ في هذا السياق، يصبح الشعر العلمي نوعًا من المقاومة الرمزية ضد اختزال الإنسان في بيانات، وضد حصر المعرفة في لغة البرمجيات. إنّه تذكير بأن العلم لا يكتمل دون بعد جمالي يعيد للمعرفة إنسانيتها.

إن «البريق» في الشعر العلمي يتمثل في طاقته على إعادة إنعاش الدهشة، و«المأساة» تكمن في عجزه عن مضاهاة دقة التجربة العلمية. ومع ذلك، يبقى هذا الشعر العلمي محاولة جريئة لاستعادة وحدة الوجود، حيث يتجاور العقل والخيال في نص واحد، يعكس حاجة الإنسان الدائمة إلى أن يعيش المعرفة لا كمعطى تقني فقط، بل كتجربة جمالية ووجودية.

مراجع مقترحة:

لوكراتيوس، في طبيعة الأشياء (De rerum natura).

أبو العلاء المعري، رسالة الغفران.

جاكبسون، رومان، قضايا في علم اللغة والشعر.

ميشيل سير (Michel Serres)، شعر وعلم.

بول فاليري، مقالات في الشعر والفكر.

0 التعليقات: