الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، أكتوبر 06، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (11) أمارتيا سن ومارثا نوسباوم : عبده حقي


 بين عامي 1993 و1995، دار حوار فلسفي عميق بين الاقتصادي والفيلسوف الهندي أمارتيا سن والفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم، مثّل أحد أهم التحولات الفكرية في النظر إلى العدالة والتنمية. لم يكن مجرد نقاش أكاديمي بين خبيرين في الاقتصاد والأخلاق، بل كان تأسيساً لمدرسة فكرية جديدة تُعرف بـ"مقاربة القدرات

" (Capability Approach). هذه المقاربة لم تسع إلى قياس الرفاه بعدد السلع أو الدخل الفردي، بل بما يستطيع الإنسان فعله فعلاً أن يعيش حياة ذات معنى. إنها نقلة من الاقتصاد إلى الفلسفة، ومن النمو إلى الكرامة الإنسانية.

في مطلع التسعينيات، كانت نظريات التنمية تترنح بين مقاييس النمو الاقتصادي ومؤشرات الناتج الداخلي الخام، فيما كانت الفجوات الاجتماعية تتسع، والكرامة الإنسانية تُختزل في الأرقام. في هذا السياق، جاء الحوار بين أمارتيا سن ومارثا نوسباوم ليقلب المفاهيم رأساً على عقب، مطروحاً سؤالاً أخلاقياً بسيطاً في مظهره، لكنه ثوري في جوهره:

ما الذي يجعل حياة الإنسان جديرة بأن تُعاش؟

رأى أمارتيا سن أن العدالة لا يمكن اختزالها في توزيع الثروات أو تحسين الدخل، لأن الدخل ليس غاية بل وسيلة. فليس المهم كم يمتلك الفرد، بل ما الذي يمكنه أن يفعله بما يمتلكه. فامرأتان قد تتساويان في الدخل، لكن إذا كانت إحداهما مقموعة سياسياً أو معاقة جسدياً أو محرومة من التعليم، فإن قدراتها على تحقيق حياتها الكريمة تختلف جذرياً. من هنا نشأ مفهوم القدرات (Capabilities) الذي يشير إلى إمكانات الإنسان الحقيقية في تحقيق ما يعتبره ذا قيمة في حياته.

أما مارثا نوسباوم فقد أضافت بعداً فلسفياً ونسوياً على هذا التصور، مؤكدة أن الحديث عن القدرات لا يمكن أن ينفصل عن الحديث عن الكرامة الإنسانية كقيمة مطلقة. فليست الحرية الاقتصادية وحدها كافية إذا ظلت النساء عاجزات عن اتخاذ قراراتهن، أو إذا حُرم الأفراد من المشاركة السياسية والثقافية. بالنسبة إليها، القدرات ليست فقط إمكانات للفعل، بل أيضاً اعتراف بالمواطنة الكاملة وبالإنسان بوصفه غاية لا وسيلة.

خلال هذا الحوار الممتد، حاولت نوسباوم أن تمنح مقاربة القدرات طابعاً معيارياً أكثر وضوحاً من طرح سن الذي ظل أقرب إلى المنهج المقارن. فاقترحت قائمة أساسية من القدرات الجوهرية التي يجب أن تكفلها أي دولة لمواطنيها: الحق في الحياة، في الصحة، في التعليم، في الحرية السياسية، في الانتماء الاجتماعي، في التعبير الفني، وفي العلاقة المتوازنة مع الطبيعة.

هذه القائمة، في نظرها، ليست برنامجاً اقتصادياً بل إعلاناً فلسفياً عن الحدود الدنيا للكرامة الإنسانية، شبيهاً بما حاول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن يحققه في القرن العشرين.

أمارتيا سن، من جانبه، كان أكثر حذراً من أي محاولة لتوحيد عالمي صارم. فقد رأى أن ما يُعتبر قدرة أساسية قد يختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات. لذا دافع عن نسبية معيارية منفتحة، تسمح للحوار الديمقراطي المحلي بأن يحدد ما يعتبره مجتمع ما من "القدرات الجوهرية" وفقاً لتاريخه وثقافته. وهكذا، ظل الحوار بينهما مفتوحاً بين الكونية والخصوصية، بين الأخلاق والسياسة.

لقد أثر هذا الحوار العميق في مؤسسات الأمم المتحدة وبرامج التنمية البشرية. فقد تبنّى تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) سنة 1994 فكرة القدرات كأساس لتقييم التقدم البشري. تحوّل الإنسان من "وسيلة للتنمية" إلى "غاية التنمية".

فلم تعد التنمية مجرد زيادة في الإنتاج، بل توسيعاً لاختيارات البشر. ومن هنا أصبح يُقاس نجاح الدول ليس بعدد مصانعها أو ناتجها المحلي، بل بمدى قدرتها على تمكين مواطنيها من التعليم، والصحة، والمشاركة، والعيش الكريم.

يمتد الحوار بين سن ونوسباوم إلى سؤال العدالة نفسه:

هل العدالة تتحقق بالمساواة في الموارد، أم بالمساواة في القدرات؟

يرى سن أن العدالة الحقيقية تُقاس بمدى ما يمكن للفرد فعله فعلاً، وليس بما يملكه من موارد. فالموارد لا قيمة لها إذا لم تتحول إلى إمكانات. أما نوسباوم، فتُصر على أن العدالة يجب أن تُبنى على رؤية معيارية واضحة لماهية الإنسان وما يحتاجه ليعيش حياة كريمة. إنها عودة إلى تقليد أرسطو في فهم الإنسان بوصفه كائناً عقلانياً واجتماعياً يحتاج إلى تحقيق إمكاناته عبر المشاركة والمعنى.

ما يجعل هذا الحوار متجدداً هو أنه لم ينته في تسعينيات القرن الماضي. ففي عالم اليوم، حيث تتسع الفوارق الرقمية، وتُهدد الحروب والنزوح والذكاء الاصطناعي مفهوم العمل والكرامة، تعود مقاربة القدرات لتطرح سؤالها الأخلاقي القديم:

هل نُقيم التقدم بما ننتجه من أدوات، أم بما نمنحه من إمكانات للعيش الكريم؟

في زمن الخوارزميات، يبدو أن العودة إلى سن ونوسباوم ليست ترفاً فكرياً بل ضرورة إنسانية. لأن الكرامة لا تُقاس بالذكاء الاصطناعي أو بالثروة الرقمية، بل بقدرة الإنسان على أن يكون إنساناً.

خاتمة:

لقد شكّل حوار أمارتيا سن ومارثا نوسباوم حول القدرات والأخلاق لحظة تأسيسية في الفكر المعاصر، جمعت بين الاقتصاد والفلسفة والسياسة في مشروع واحد هو العدالة بوصفها تمكيناً. فحين تتحول التنمية إلى أخلاق، والاقتصاد إلى فلسفة، يصبح السؤال الأهم ليس "كم نملك؟" بل "ما الذي يمكننا أن نكونه؟" — وهي، في جوهرها، أعظم دعوة لاستعادة إنسانية الإنسان في زمن الاقتصاد المعولم.

0 التعليقات: