في حوارٍ فلسفي استثنائي جمع بين بيتر سلوتر دايك (Peter Sloterdijk) وبرونو لاتور (Bruno Latour) سنة 2011، انفتح النقاش على مفاهيم غير مألوفة في الفلسفة المعاصرة: المناعة (Immunology) والإيكولوجيا (Ecology) باعتبارهما وجهين متداخلين لزمنٍ واحدٍ هو زمن العولمة. لم يكن الأمر مجرد حديث عن الصحة أو البيئة، بل عن الكوكب كفضاء سياسي جديد، وعن الإنسان ككائن يعيش في “غلاف جوي” من المعاني والتقنيات والتفاعلات.
هذا الحوار يكشف كيف
انتقلت الفلسفة من التفكير في الإنسان كـ"ذات مستقلة" إلى التفكير فيه كـ"كائن
مغمور" داخل أنظمة هوائية وبيئية تحكم وجوده، وتعيد تعريف علاقته بالآخر وبالأرض.
منذ بداية الألفية
الثالثة، يعيش الفكر الفلسفي تحوّلاً جذرياً في نظرته إلى الإنسان والعالم، إذ لم تعد
مفاهيم مثل “الطبيعة” و“الثقافة” قادرة على تفسير تشابك الكوارث البيئية، والأزمات
الصحية، والانفجارات السياسية التي تميّز عصرنا. في هذا السياق جاء حوار سلوتر دايك
ولاتور ليقترح أفقاً جديداً للتفكير، يجمع بين *المناعة* بوصفها آلية دفاعٍ رمزية ومادية،
و*البيئة* بوصفها فضاءً مشتركاً تتحدد فيه شروط الحياة والسيادة.
سلوتر دايك، فيلسوف
الكرات الهوائية و"السُبُل" (spheres)،
يرى أن الإنسان المعاصر يعيش في “أنظمة مناعية رمزية” تشبه الأغلفة الواقية، سواء كانت
لغوية أو تقنية أو دينية. كل مجتمع يبني حول نفسه قبة تحميه من الخارج، تماماً كما
يبني الجسد مناعته ضد الفيروسات. لكن العولمة، في رأيه، كسرت هذه القباب، وعرّت الإنسان
أمام "العالم المفتوح"، مما جعله يعيش في حالة توتر دائم بين الانغلاق لحماية
الذات والانفتاح للتفاعل مع الآخر.
أما برونو لاتور، أحد
أبرز ممثلي "فلسفة الفاعلين-الشبكات"، فقد رأى أن هذا التحليل لا يكتمل دون
إدخال مفهوم “البيئة” كعامل سياسي. بالنسبة إليه، لم تعد السياسة تُمارس داخل الدولة
أو السوق فقط، بل أصبحت تُمارس في الغلاف الجوي ذاته: في الكربون، والمناخ، والمياه،
والبلاستيك. فالكوكب اليوم، كما يقول، هو برلمانٌ مفتوح لكل الكائنات، حيث النباتات
والحيوانات والبشر والتقنيات تتفاوض جميعها على شروط البقاء.
يتقاطع المفهومان في
فكرة مركزية: أن المناعة والبيئة وجهان للسيادة في زمن العولمة. فالمناعة تعبّر عن
حماية الذات من الاختراق، بينما تعبّر البيئة عن الاندماج في شبكة الحياة. غير أن هذه
الثنائية تضع الإنسان أمام مفارقة عميقة: كيف يمكن أن نحمي أنفسنا دون أن نغلق حدودنا؟
وكيف يمكن أن ننفتح على الآخر دون أن نفقد توازننا الحيوي؟
في هذا السؤال يكمن
جوهر الحوار بين سلوتر دايك ولاتور، الذي يتجاوز الطب والبيئة إلى الفلسفة السياسية
نفسها.
في زمن الجوائح (مثل
كوفيد-19) وأزمات المناخ، يكتسب هذا الحوار بعداً استشرافياً. فالمناعة لم تعد مجرد
مسألة بيولوجية، بل سياسية وثقافية: من يملك اللقاح يملك القوة، ومن يتحكم في التكنولوجيا
يسيطر على الهواء ذاته. وهنا يلتقي سلوتر دايك ولاتور في نقدهما للحداثة التي جعلت
الإنسان يظن أنه "فوق الأرض" بينما هو في الحقيقة يعيش داخلها، يتنفسها،
ويؤثر فيها ويتأثر بها.
يتحدث سلوتر دايك عن
“إيكولوجيا داخلية”، أي أن كل فرد أو جماعة تنشئ نظامها المناعي الداخلي الذي يشمل
اللغة والطقوس والمعتقدات. هذه المناعة ليست فقط ضد الأمراض، بل ضد التلوث الرمزي:
ضد الخوف، والتضليل الإعلامي، والانفجار المعلوماتي الذي يهدد نقاء التجربة الإنسانية.
أما لاتور فيذكّر بأن هذا الانغلاق المناعي قد يكون قاتلاً إذا لم يقترن بالاعتراف
بأن الكوكب نفسه كائن حيّ هش، يحتاج إلى “سياسة بيئية جديدة” لا تقوم على السيطرة،
بل على التعايش.
الاثنان، من زوايا
مختلفة، يعيدان رسم خريطة الفلسفة بعد الحداثة. فبينما كان الفلاسفة الكلاسيكيون يتحدثون
عن "العقل" و"الذات" و"الحرية"، نجد سلوتر دايك ولاتور
يتحدثان عن “الهواء” و“الفضاء” و“البيئة”. لم تعد الفلسفة تسأل: ما الإنسان؟ بل تسأل:
أين يعيش الإنسان؟ وفي أي نظام يتنفس؟
إنها عودة إلى التفكير
في “الجو” ككيان سياسي، في “الهواء” كموضوع للسيادة. كما لو أن السلطة انتقلت من الأرض
إلى الغلاف الجوي، من الحدود إلى المناخ.
في هذا المنظور، تصبح
الأزمة البيئية ليست فقط أزمة تلوث، بل أزمة معنى. العولمة التي وعدت بالانفتاح خلقت
في المقابل هشاشة مناعية، جعلت المجتمعات تبحث عن ملاذات آمنة في القومية أو الدين
أو الهوية. يقرأ سلوتر دايك هذا الانكماش بوصفه "استجابة مناعية"، بينما
يراه لاتور مؤشراً على فشلنا في إقامة "عقد اجتماعي جديد مع الأرض".
إن الحوار بينهما،
وإن بدا نظرياً، يحمل رسالة أخلاقية وسياسية عميقة: يجب أن نتعلم كيف نبني “مناعتنا”
دون أن ندمّر بيئتنا، وكيف نعيش في “عالم مشترك” دون أن نفقد خصوصيتنا الثقافية والرمزية.
إنها دعوة إلى فلسفة التوازن بين الحماية والانفتاح، بين الذات والعالم، بين الجسد
والكوكب.
في النهاية، يبدو أن
سلوتر دايك ولاتور يشتركان في تصورٍ جديد للإنسانية ما بعد العولمة: إننا لسنا أسياد
الأرض، بل كائنات هوائية معلّقة داخل شبكة كونية من الاعتماد المتبادل. فالفكر المناعي
لا ينفصل عن الفكر البيئي، وكلاهما يضع الإنسان أمام مسؤوليته الكبرى: أن يتعلم كيف
يعيش دون أن يخنق الهواء الذي يتنفسه.
بهذا المعنى، يصبح
الحوار بين المناعة والإيكولوجيا ليس نقاشاً فلسفياً فحسب، بل خريطة نجاة لكوكبٍ يبحث
عن توازنه الأخير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق