الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أكتوبر 01، 2025

الرواية الملعوبة: السرد التفاعلي بين آليات اللعب وحرية القارئ: ترجمة عبده حقي


في السنوات الأخيرة، أخذت الحدود بين الأدب والألعاب الرقمية في التلاشي، بحيث لم يعد السرد محصوراً في الصفحة، بل أصبح يمتد إلى فضاءات تفاعلية تتيح للقارئ ـ أو بالأحرى اللاعب ـ أن يتدخل في مسار الأحداث كما يتدخل في مسار اللعبة. ما يُسمى بـ الرواية الملعوبة أو الـ Gamified Novel لا يمثّل مجرد نزوة تقنية عابرة، بل هو انعكاس لتحول عميق في مفهوم القراءة والكتابة، حيث تصبح التجربة الأدبية أكثر قرباً من فعل اللعب، ويغدو السرد مجالاً مفتوحاً للتجريب والتفاعل.

يشير جيمس بول جي (James Paul Gee) في كتابه What Video Games Have to Teach Us About Learning and Literacy (2003)  إلى أنّ الألعاب ليست مجرد أدوات للتسلية، بل فضاءات لبناء مهارات التفكير النقدي واتخاذ القرار. فإذا نقلنا هذا المنطق إلى الرواية، يصبح النص مجالاً مفتوحاً للتعلّم التفاعلي، حيث لا يكتفي القارئ بمتابعة الشخصيات، بل يُسهم في تشكيل مصائرها، تماماً كما في ألعاب السرد التفاعلي مثل Detroit: Become Human أو Life is Strange.

إنّ إدخال عناصر اللعب في النصوص السردية يخلق وضعية جديدة للقراءة: القارئ لم يعد شاهداً محايداً، بل صار شريكاً في صنع الحدث. وكما يشير الباحث إسبن إرسث

(Espen Aarseth)  في

كتابه Cybertext: Perspectives on Ergodic Literature (1997)،

فإن النصوص التفاعلية تتطلب جهداً إضافياً من القارئ، أشبه بالجهد الذي يبذله اللاعب في استكشاف عوالم اللعبة. هذا الجهد ليس عقبة، بل هو شرط أساسي لإعادة تعريف العلاقة بين القارئ والنص، حيث يتحول القارئ إلى "لاعب سردي".

في هذا السياق، يمكن القول إنّ الرواية الملعوبة تمثل امتداداً لتجارب أدبية سبقت، مثل روايات "اختر مسارك" (Choose Your Own Adventure) التي ظهرت في الثمانينيات، لكنها اليوم تكتسب أبعاداً أكثر تعقيداً بفعل الثورة الرقمية. فالتقنيات الجديدة ـ من الواقع المعزز إلى الذكاء الاصطناعي ـ فتحت أمام الكتّاب إمكانيات غير مسبوقة لتصميم نصوص ديناميكية تُشبه المتاهات أو الشبكات، حيث تُصبح كل قراءة مساراً مختلفاً، وكل قرار نقطة تحوّل قد تغيّر نهاية القصة بالكامل.

 

لكن هذه الحرية ليست بلا ثمن. فالسؤال النقدي المطروح هنا هو: هل تذوب البنية الروائية الكلاسيكية أمام إغراءات اللعب؟ وهل يمكن للنص الأدبي أن يحافظ على قيمته الجمالية والمعرفية إذا تحول إلى مجرد منصة للخيارات والآليات؟ هنا يكمن التحدي. فكما يذكّرنا أمبرتو إيكو في Lector in Fabula (1979)، فإن أي نص أدبي يحتاج إلى "قارئ نموذجي" يعرف كيف يملأ الفراغات، ويفكك الدلالات، ولا يكتفي بمتعة اللعب السطحية.

لقد شهدنا محاولات أدبية جريئة لدمج آليات اللعب داخل السرد. رواية S. التي كتبها دوغ دورست بالتعاون مع المخرج جاي جاي أبرامز، قدّمت تجربة تجمع بين النصوص المطبوعة والهوامش التفاعلية والملاحق السرية. كما أن بعض الروائيين الشباب باتوا يوظفون محركات الألعاب مثل Unity أو Twine لتصميم روايات رقمية تعطي القارئ إحساساً بأنه يتجول داخل متحف أدبي متعدد الغرف.

ولا شك أن هذه الظاهرة مرتبطة أيضاً بوعي جيل جديد من القرّاء الذين نشأوا في زمن الألعاب والهواتف الذكية. هؤلاء القراء يريدون نصوصاً تشبه بيئاتهم اليومية: نصوصاً سريعة، متعددة الطبقات، تفاعلية، وقابلة للتخصيص. من هنا فإن الرواية الملعوبة ليست مجرد تقليعة ما بعد حداثية، بل هي استجابة لتحولات أعمق في الوعي القرائي والثقافة الرقمية.

إن مستقبل السرد الأدبي في ظل هذه التحولات يضعنا أمام مفارقة: من جهة، يتيح التفاعل آفاقاً غير مسبوقة للإبداع، بحيث يمكن للرواية أن تصبح لعبة تربوية أو تجربة فلسفية أو حتى محاكاة سياسية. ومن جهة أخرى، يهدد هذا الانفتاح بتفكيك البنية الأدبية إلى مجرد لعبة بلا عمق. الحل يكمن، ربما، في صياغة توازن جديد بين جمالية الأدب وقوة اللعب، بين النص كفن مستقل وبين النص كفضاء تفاعلي.

في نهاية المطاف، تبدو الرواية الملعوبة بمثابة مختبر للأدب المستقبلي، حيث تتقاطع أدوات السرد مع آليات اللعب لتعيد صياغة تجربة القراءة من جديد. إنها ليست مجرد رواية تُقرأ، بل رواية تُعاش، كما يُعاش الحلم أو تُخاض اللعبة. وكما كتب والتر بنيامين عن "قيمة التجربة" في زمن التقنية، يمكننا القول إن الرواية الملعوبة تمنح القارئ تجربة مركبة، لا تقتصر على المعرفة، بل تمتد إلى المتعة، التعلّم، والمشاركة الوجدانية.

0 التعليقات: