لقد برزت برز تقنية البلوكشين كأكثر من مجرد أداة مالية، إذ أصبحت اليوم مساحة جديدة لإعادة تصور ماهية الأدب نفسه. فكما أحدثت الطباعة نقلة نوعية في نقل الكلمة، قد يكون للبلوكشين الدور ذاته في تحرير السرد من قيود المؤسسات الناشرة ومنح الكُتّاب والقرّاء معاً سلطة جديدة على النص والملكية والمعنى.
البلوكشين، في جوهرها، شبكة من السجلات الموزعة التي تتيح الشفافية وتمنع التلاعب. لكن في الحقل الأدبي، تتحول هذه الشفافية إلى مفهوم فلسفي جديد للملكية الإبداعية. فبدلاً من أن تحتكر دور النشر حقوق النصوص لعقود، يمكن للكاتب أن يربط عمله برمز فريد (NFT) يضمن أصالته، ويتيح له بيع أو مشاركة نصه بشكل مباشر مع الجمهور. وهكذا تنكسر الهرمية التقليدية بين الكاتب والناشر والقارئ، ويولد فضاء أدبي تشاركي أقرب إلى ما يسميه رولان بارت “موت المؤلف”، لكن هذه المرة بولادة جديدة للكاتب اللامركزي.
على مستوى الصناعة،
بدأت تجارب ملموسة تترسخ في هذا الاتجاه. فقد أطلقت بعض المنصات مثل Mirror.xyz و Book.io أنظمة نشر مبنية على البلوكشين، تتيح للكتاب
إدارة عائداتهم بشكل مباشر ومتابعة تداول أعمالهم رقمياً دون وسطاء.
يصف الباحث “مارك أندريسن”
في ورقته عن
“Web3
and the Creative Economy” هذا التحول بأنه انتقال من “اقتصاد التبعية” إلى “اقتصاد التمكين”، حيث
يصبح كل منتج ثقافي عُقدة فاعلة داخل شبكة بلا مركز.
لكن خلف هذا البريق
التقني، يلوح سؤال جوهري: هل تتحول الرواية إلى سلعة رقمية أخرى تُتداول مثل العملات
المشفّرة؟ إن الخطر قائم، كما تشير الباحثة “كاثرين هايلز” في كتابها Electronic
Literature: New Horizons for the Literary, إلى أن تحويل النص إلى كيان رمزي قابل للتداول
قد يفقده طابعه الإنساني ويختزله إلى قيمة مادية. إلا أن هذا الاعتراض ذاته يعيدنا
إلى صميم جدلية الحداثة الرقمية: كيف نحافظ على روح الأدب في زمن البرمجيات؟
البلوكشين لا تعيد
فقط تشكيل بنية الملكية، بل أيضاً طبيعة السرد نفسه. تخيّل رواية تُكتب جماعياً على
سلسلة كتل، يضيف كل قارئ فقرة جديدة تُسجّل زمنياً ولا يمكن حذفها، فتتحول الرواية
إلى كائن حي يتنفس عبر الزمن الرقمي. هنا، يصبح النص غير مكتمل، دائم التشكل، أشبه
بحديقة هايدغرية “ينبت فيها المعنى من انفتاح الكينونة”. لقد بدأ كتّاب تجريبيون مثل Sasha Stiles وAna María Caballero في اختبار هذا الشكل من الأدب القائم على
“الملكية المشتركة للسرد”، حيث القارئ شريك في التكوين لا مجرد متلقٍ.
من الناحية الثقافية،
يفتح هذا التحول آفاقاً جديدة للديمقراطية الأدبية. فالكتابة التي كانت حبيسة اللغة
أو الجغرافيا، يمكن الآن أن تنتشر عبر الرموز المشفّرة والأنظمة اللامركزية إلى قراء
في أقصى العالم، دون حاجة إلى ناشر أو وسيلة إعلام. إنها عولمة من نوع آخر، لكنها ليست
عولمة السوق بل عولمة الذاكرة الجماعية.
ومع ذلك، فإن مستقبل
“رواية البلوكشين” سيعتمد على قدرتنا على تحقيق توازن بين الحرية التقنية والمسؤولية
الثقافية. فلا يكفي أن نمنح الكاتب استقلالاً رقمياً، بل يجب أن نعيد التفكير في القيم
الجمالية التي تحكم الإبداع في فضاء لا مركزي. فكما قال أمبرتو إيكو في اسم الوردة:
“كل معرفة تحتاج إلى نظام، حتى الفوضى تحتاج إلى هندستها الخاصة”.
إننا أمام منعطف يشبه
ما حدث في بدايات الحداثة حين كسرت الرواية الكلاسيكية قواعد السرد الخطي. اليوم، يكسر
البلوكشين قواعد الملكية والوساطة ليعيد للأدب حريته الأولى: أن يكون عملاً إنسانياً
متبادلاً، يعيش في الذاكرة لا في الخوادم فقط. وبين الشيفرة والكلمة، يولد عهد جديد
من “الكتابة اللامركزية”، حيث لا أحد يمتلك الحكاية بالكامل، لكنها ملك الجميع في آن
واحد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق