نظّم اتحاد كتاب الإنترنت العرب ندوة علمية حول تلقي السرديات الرقمية والتحولات التي فرضتها الوسائط الجديدة على الكتابة والقراءة، بمشاركة الروائي ورئيس الاتحاد محمد سناجلة، وإدارة الباحثة سلوى سعداوي، ومداخلتين رئيسيتين لكل من الأستاذ الدكتور محمد بوعزة والأستاذ الدكتور إبراهيم العمري، مع مداخلة تكميلية للدكتور عبد الرحمن المحسني. خلص النقاش إلى أن السرد الرقمي لم يعد امتدادًا بسيطًا للرواية الورقية، بل منظومة جمالية وتقنية وثقافية متشابكة تستدعي قارئًا فاعلًا، وتدريبًا رقمياً، وإعادة نظر في مفاهيم المؤلف والأدبية، مع توقع تصاعد أثر الألعاب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي في تشكيل “الرواية-اللعبة”.
في تقديمها، شدّدت
سلوى سعداوي على صعوبة زحزحة “الثوابت المؤسسية” في الأدب، مبرزةً أن مشروع اتحاد كتاب
الإنترنت العرب بإشراف محمد سناجلة يمضي في “طريق غير مأمون العواقب” من حيث جرأته
على العبور من الورقي إلى الرقمي، ومن الإنسان إلى “ما بعد الإنسان” في بيئات متغيرة.
الهدف المركزي للندوة: اختبار معنى القراءة اليوم داخل فضاء متعدد الوسائط، وتحديد
مكان القارئ في هذا المنعرج.
المداخلة الأولى: السرديات
الرقمية… آفاق جديدة وتحديات متجددة (د. محمد بوعزة)
الموقع النظري: قدّم
بوعزة السرديات الرقمية بوصفها أحد اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية؛ امتدادٌ جدلي
للسرديات البنيوية لا قطيعة معها، يتغذّى من التحول الرقمي، والمنعطف التداولي، والمنعطف
المعرفي–الإدراكي.
تعريف إجرائي: السرديات
الرقمية تدرس كيف تُبنى القصص وتُشارك في البيئات الرقمية، وتفسّر وظائفها الاجتماعية
والثقافية انطلاقًا من مركزية الوسيط في تشكيل الشعرية والمعنى.
الأنواع والخصائص:
من النص التشعبي إلى القصص التفاعلية والمتعددة الوسائط، وسرد التطبيقات، وسرد الشبكات
الاجتماعية، وأعمال الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي. أبرز السمات: التشعبية، اللاخطية،
التفاعلية، والتعدّد الوسائطي.
التحديات:
ثقافية–بُنيوية: فجوة
رقمية عربية تعيق إنتاج الأدب الرقمي وتلقيه ورسوخه في غياب بنية تحتية ومعرفة رقمية
متينة.
جمالية–تقنية: موازنة
سلطة التأليف مع حرية القارئ داخل بنى متفرعة قد تهدد تماسك الحكاية؛ حاجة المبدع والناقد
والقارئ إلى كفاية رقمية موازية للكفاية القرائية.
مفهوم المؤلف: صعود
التأليف الخوارزمي وتشارك الأدوار بين الكاتب والمبرمج/المطوّر يربك الحدود الكلاسيكية
للأدبية والمؤلف.
المداخلة الثانية:
قارئ الرواية الرقمية… من الانفعال إلى الفعل (د. إبراهيم العمري)
تفريق تأسيسي: ليس
كل ما يُنشر إلكترونيًا أدبًا رقميًا؛ الأدب الرقمي الحقيقي يُصمَّم رقميًا منذ الأصل
بحيث تؤدي التقنيات دورًا دلاليًا وجماليًا لا “زينة” لاحقة.
تحول موقع القارئ:
انتقل القارئ من متلقٍّ منفعِل إلى مشارك يُحدث أثرًا في مجرى الحكاية عبر اختياراته
وتنشيطه للروابط ومسارات القراءة.
أمثلة تطبيقية:
في أعمال غربية، قد
يصبح “ضغط زر” داخل خطاب الشخصية رابطًا فعليًا يفعّله القارئ الحقيقي فتتسارع الأحداث.
في رواية «شات» لمحمد
سناجلة، تُوظَّف حركية النص وظهوره/اختفاؤه وفق تفاعل القارئ، وتُزامَن أصوات داخلية
وخارجية على الشاشة بما يتعذّر ورقيًا، فتتجسّد ثنائية الواقع/الافتراض على مستوى البناء
والدلالة معًا.
المحصلة: التفاعلية
هنا ليست تعليقًا أو “تسكعًا” في الروابط، بل مشاركة واعية في تشييد المعنى داخل نص
مُصمَّم ليستدعي فعل القارئ الجسدي والذهني.
نقاشات ومحاور جانبية
هل المستقبل للألعاب؟
طرح محمد سناجلة سؤالًا مفتوحًا: هل تتجه الرواية الرقمية إلى الرواية–اللعبة متعددة
اللغات التي يشترك في صنع مساراتها لاعبون من العالم كله؟
توسيع المصطلح أم ضبطه؟
دعا عبد الرحمن المحسني إلى انفتاح تعريف الأدب الرقمي لئلا نخسر المتلقي “صاحب العقل
المتشعب” الذي ربّته منصات الفيديو القصيرة، مؤكدًا أصالة النص الرقمي حين يرتقي أدبيًا
وتخدمه الوسائط. في المقابل، حذّر العمري من ذوبان الأدب إن تقلّص الحضور اللغوي لصالح
اللعب الخالص.
المؤلف والقارئ في
زمن الذكاء الاصطناعي: أشار بوعزة إلى أن صعود قصص الذكاء الاصطناعي يفرض مراجعة الحدود
بين كتابة بشرية وخوارزمية، وأن القارئ اليوم يجمع صفات القارئ/اللاعب/المستخدم.
التلقي والنخبوية:
أكدت سعداوي أن قارئ السرد الرقمي الراهن ما يزال “نخبويًا” نسبيًا بحكم تعقيدات التفاعل
ومتطلبات الثقافة الرقمية، داعيةً إلى تمييزٍ منهجي بين قراءة ملف إلكتروني ثابت وقراءة
رواية رقمية مصممة للتفاعل.
خلاصات وتوصيات
مركزية الوسيط: لا
سرد رقمي بلا وعي جمالي–تقني يعتبر الوسيط جزءًا من البناء والمعنى.
تأهيل رقمي شامل: الحاجة
إلى برامج تدريب للمبدعين والنقاد والقرّاء لردم الفجوة الرقمية عربيًا.
بحث بينيّ التخصصات:
توسيع التعاون بين السرديات، وعلوم الإعلام، والوسائط التفاعلية، والبرمجة الإبداعية.
توثيق وتجريب: بناء
بيبليوغرافيا عربية للأعمال الرقمية، وتشجيع نماذج “الرواية–اللعبة” مع الحفاظ على
جوهر الأدبية.
أخلاقيات وحقوق: تطوير
أطر حقوقية للكتابة الخوارزمية وملكية المحتوى التوليدي ومسارات التفاعل.
خاتمة
أجمعت الندوة على أن
السؤال هو أول المعرفة: كيف نكتب ونحلّل ونتلقّى أدبًا يولد داخل الشاشة؟ الإجابة لن
تأتي من انحياز لورقيّ على رقميّ، ولا من احتفالية تقنية عمياء؛ بل من مشروع نقدي–إبداعي
يوازن بين اللغة والوسيط، ويمنح القارئ دورَه الجديد دون أن يفقد الحكاية روحها. اتحاد
كتاب الإنترنت العرب وعد بنشر أعمال الندوة ورقيًا ورقميًا، توطئةً لجولات قادمة من
النقاش والتجريب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق