الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، أكتوبر 27، 2025

أَحْلَامُ السُّطُوحِ بِقَلَمِ: عَبْدُهُ حَقِي


عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ كُنْتُ أَزْرَعُ الْغَيْمَ بِيَدَيَّ، أَزْرَعُهُ كَمَا يَزْرَعُ الطِّفْلُ أَمَلَهُ فِي أُصِيصٍ مِنْ صَفِيحٍ، أُرَاقِبُ السَّمَاءَ تَنْتَفِخُ بِالْمَوَاعِيدِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَأَنْتَظِرُ مَطَرًا لَا يَأْتِي، كَمَنْ يَنْتَظِرُ أَنْ يُنَادَى بِاسْمِهِ فِي سِجِلِّ الْغِيَابِ. كَانَتِ الرِّيحُ تَمُرُّ خَفِيفَةً، تُدَاعِبُ غِطَاءَ اللَّيْلِ وَتُقَلِّبُ الشَّعَرَاتِ الْهَارِبَةَ مِنْ رَأْسِي، وَأَنَا أُصْغِي لِأَنِينِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ كَأَنَّهَا تَرْوِي سِرَّ وَحْدَتِي الطَّوِيلَةِ.

فِي الزَّوَايَا تَتَكَدَّسُ أَحْلَامِي مِثْلَ مَلَابِسَ مَنْسِيَّةٍ عَلَى حَبْلِ الْغَسِيلِ، أَمُدُّ يَدِي لِأَرْتَدِيَهَا فَتَتَبَخَّرُ فِي هَوَاءِ الْغُرُوبِ قَبْلَ أَنْ أَتَعَرَّفَ إِلَى نَفْسِي فِي مِرْآتِهَا. الْقَمَرُ يَجْلِسُ فَوْقَ كُرْسِيٍّ مِنْ صَفِيحٍ، يَرْمُقُنِي كَصَدِيقٍ قَدِيمٍ أَنْهَكَهُ السَّهَرُ، كِلَانَا يَبْحَثُ عَنْ بَيْتٍ آخَرَ لَا يَصْدَأُ فِيهِ الضَّوْءُ.

وَمَعَ كُلِّ فَجْرٍ يَجِيءُ أَسْمَعُ خُطُوَاتِي الْقَدِيمَةَ تَصْعَدُ السُّلَّمَ مِنْ جَدِيدٍ، كَأَنَّهَا تَبْحَثُ عَنِّي فِي الْمَاضِي، فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَلْمَعُ فِيهَا أَصْوَاتُ الْجِيرَانِ مِنْ فَوْقِ الْأَسْطُحِ كَأُغْنِيَةٍ جَمَاعِيَّةٍ لِلنَّجَاةِ.

السُّطُوحُ لَيْسَتْ عُلُوًّا كَمَا يَظُنُّ النَّاسُ، إِنَّهَا مَنْفًى آخَرُ نُطِلُّ مِنْهُ عَلَى أَرْوَاحِنَا حِينَ تُغْلِقُ الْأَرْضُ أَبْوَابَهَا، وَنَقِيسُ الْمَسَافَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا يُقِيسُ السَّجِينُ مِسَاحَةَ زَنْزَانَتِهِ بِالذَّاكِرَةِ.

رَائِحَةُ الْغَسِيلِ الْمُبْتَلِّ تَخْتَلِطُ بِذَاكِرَةِ أُمِّي، أَشُمُّهَا فَأَشْعُرُ أَنَّ الزَّمَنَ يَبْتَسِمُ لِي كَمَا كَانَتْ تَبْتَسِمُ مِنَ الشُّرْفَةِ، حِينَ كَانَتْ تُرْسِلُ لِي قِطْعَةَ خُبْزٍ وَسَلَامًا خَفِيفًا مِنْ يَدِهَا.

أَضَعُ رَأْسِي عَلَى حَافَّةِ الْحَائِطِ وَأَقِيسُ الْمَسَافَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْغَدِ، فَأَجِدُهَا لَا تَزِيدُ عَنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ يَضِيعُ فِي صَمْتِ السَّمَاءِ. تَسْقُطُ نَجْمَةٌ عَلَى صَدْرِي، أَمُدُّ يَدِي بِخَوْفٍ وَشَغَفٍ لِأَمْسِكَهَا، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: رُبَّمَا هِيَ رِسَالَةٌ مِنِّي إِلَى نَفْسِي الْقَدِيمَةِ، تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ تُصَدِّقُ أَنَّ الْعَالَمَ يُمْكِنُ أَنْ يُرَى مِنْ فَوْقِ السَّطْحِ بِوُضُوحٍ أَكْثَرَ.

وَحِينَ أَنَامُ فَوْقَ السَّطْحِ أَحْلَمُ أَنَّنِي طَائِرٌ، أَطِيرُ عَلَى ارْتِفَاعٍ مِنَ الذَّاكِرَةِ، أَرْفْرِفُ بَيْنَ نَوَافِذِ الْبُيُوتِ وَأَيْدِي الْغَائِبِينَ، وَلَكِنَّنِي أَسْتَيْقِظُ عَلَى ظِلِّي مَشْدُودًا إِلَى حَبْلِ الْغَسِيلِ، كَأَنَّ السَّمَاءَ لَا تَسْمَحُ لِي بِالرَّحِيلِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَجِفَّ تَمَامًا مِنَ الْحُلْمِ.




0 التعليقات: