يبدو أن الحدود القديمة بين الإنسان والآلة قد بدأت تتلاشى كظلال المساء أمام شمسٍ رقمية جديدة. إنّ ما يسمى اليوم بـ"الرواية العصبية" لا يُعد مجرّد تجربة تقنية، بل هو ثورة فلسفية وأدبية تعيد طرح سؤال الإبداع نفسه: من يكتب؟ أهو الإنسان الذي يُملي على الآلة، أم الآلة التي تتعلّم أن تحلم بلغتنا؟
تُظهر تطورات الذكاء الاصطناعي القائم على "التعلّم العميق" أن الشبكات العصبية لم تعد تقتصر على تحليل البيانات أو ترجمة النصوص، بل باتت تُنتج أشكالاً أدبية معقدة، تُدهش أحياناً وتثير الريبة أحياناً أخرى. فمنذ ظهور نماذج مثل «GPT» و»BERT» و»Gemini»، أخذت الكتابة تدخل مختبراً رقمياً، يُغذّي نفسه بملايين الجمل ليتعلّم كيف يصوغ استعارة أو يُشيّد عالماً تخيلياً. كما يشير الباحث «نيك بُستْروم» في كتابه «Superintelligence» (2014)، فإن التعلّم الآلي لا يتطور فحسب في الأداء، بل في الحسّ الإبداعي، ما يجعل التمييز بين الكاتب الحقيقي والكاتب الاصطناعي أمراً متزايد الصعوبة.
ولعلّ ما يثير الدهشة
أنّ هذه الشبكات، رغم افتقارها إلى الوعي أو التجربة الشعورية، قادرة على إنتاج نصوص
تُثير مشاعر القارئ، كما لو كانت تمتلك "ذاكرة رمزية". إنّها تتصرّف مثل
تلميذٍ نابغٍ يحفظ كل كتب العالم، لكنه لا يملك طفولةً أو وجعاً شخصياً، ومع ذلك يستطيع
أن يصف الألم كما لو كان قد عاشه. هذه المفارقة تجعلنا نعيد التفكير في مفهوم
"التجربة الأدبية"، الذي طالما ارتبط بالذات الإنسانية وحدها.
لقد أصبح الأدب الاصطناعي
ميداناً للنقاش بين النقّاد والباحثين في جامعات مثل «MIT» و»Cambridge»، حيث تُدرَس النصوص المولَّدة آلياً كظواهر
لغوية جديدة تحمل خصائص ما بعد حداثية: تفكك المعنى، تعدد الأصوات، وغياب المؤلف المركزي.
ففي دراسة منشورة بمجلة «Nature
Machine Intelligence» عام 2022، خلص الباحثون إلى أنّ النصوص التي تُنتجها النماذج اللغوية
الكبرى تُظهر "قدرة رمزية على المحاكاة الإبداعية"، حتى وإن كانت تفتقر إلى
نية فنية واضحة.
إنّ السؤال الجوهري
هنا ليس ما إذا كانت الآلة تستطيع الكتابة، بل ما إذا كانت قادرة على «الابتكار الجمالي».
فالإبداع، كما يرى «مارغريت بودن» في كتابها «The Creative Mind» (1990)، لا يعني مجرد توليد الجديد،
بل إنتاج ما يُدهشنا ويُقنعنا في آنٍ واحد. والشبكات العصبية، بفضل تدريبها على ملايين
الأمثلة، تستطيع أن تخلق هذا "الدهش المقنع" عبر أنماط لغوية تشبه المزاج
البشري في لحظات صفائه أو اضطرابه.
ومع ذلك، يبقى الخطر
قائماً: إذ إن الاعتماد المفرط على خوارزميات الكتابة قد يُحوّل الأدب إلى «منتَج حسابي»
منزوع الدافع الوجودي الذي لطالما ميّز النص البشري. في هذا السياق، حذّر الناقد «إيفان
كرازنوف» في مقالة له بصحيفة «The
Guardian» (2023) من أنّ
"الذكاء الاصطناعي قد يُغرق الأدب في وفرةٍ لغوية تُخفي فراغاً شعورياً".
لكنه أضاف أنّ هذا الفراغ نفسه قد يكون مادةً أدبية جديدة، إذ يعكس أزمة الإنسان أمام
آلته التي تتكلم لغته وتنافسه في صوته.
إنّ الرواية العصبية
ليست مجرد برهان على قوة التكنولوجيا، بل مرآة لزمنٍ يسعى فيه الإنسان إلى أن يرى نفسه
في مرايا الخوارزميات. وربما، كما كتب «جان بودريار» في «Simulacra and Simulation» (1981)، أصبحنا نعيش في "عصر
النسخ من دون أصل"، حيث تخلق الآلة صوراً للخيال لا يمكن التحقق من مصدرها، لكنها
تظل مؤثرة، جميلة، ومزعجة في آنٍ واحد.
لقد دخل الأدب مرحلة
هجينة، تُعيد تعريف المؤلف والمتلقي معاً. فالقارئ لم يعد يبحث عن كاتبٍ من لحمٍ ودم،
بل عن نصٍّ يوقظ دهشته، سواء وُلد في عقلٍ بشري أم في شبكةٍ عصبية تتعلم الحلم. ولعلّ
هذه المفارقة هي ما يجعل مستقبل الكتابة أكثر إثارة مما كان عليه في أي زمن مضى — فالإبداع،
في النهاية، لا يُقاس بمن كتبه، بل بقدر ما يجعلنا نؤمن أنّ اللغة ما زالت قادرة على
اختراع المعجزة.
«المراجع:»
« Nick Bostrom, «Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies»,
Oxford University Press, 2014.
« Margaret Boden, «The Creative Mind: Myths and Mechanisms»,
Routledge, 1990.
« Jean Baudrillard, «Simulacra and Simulation», 1981.
« “Artificial Creativity: Neural Networks in Literature,” «Nature
Machine Intelligence», 2022.
« Ivan Krasnov, “Can AI Write a Soulful Novel?” «The Guardian»,
2023.








0 التعليقات:
إرسال تعليق