هناك شيء غريب يحدث للصحافة كلما ارتفعت الكاميرا قليلاً عن الأرض. تشعر بأن المشهد نفسه يتغيّر، لا لأن الجغرافيا تبدّلت، بل لأن الطريقة التي نراها بها لم تعد هي نفسها. هذا تماماً ما فعلته طائرات الدرون في تقارير الحدود: أخذت الحكاية من يد الحارس، ومن ظلّ الشاحنة العسكرية، ورفعتها إلى فضاء آخر… فضاء يسمح للصحافي بأن يرى الواقع كما لو أنه يرسمه بخطّ حرّ فوق دفتر كبير.
في السنوات الأخيرة، صارت هذه الطائرات الصغيرة تظهر في تقارير كثيرة: في الحدود الأمريكية–المكسيكية، فوق جزر بحر إيجه، حول طرق الهجرة في الصحراء الكبرى. الصحافيون الذين كانوا ممنوعين من الاقتراب صاروا، فجأة، يطلّون من السماء، يلتقطون ما لا يمكن للجندي على الأرض أن ينتبه إليه. بعض التقارير التي نشرتها The Guardian أو New York Times بدت، حرفياً، كأنها تكشف خريطة جديدة لم نكن نعرفها.
والأجمل – وربما الأخطر – أنّ هذه اللقطات لا تقدّم صورة فقط. إنّها تقدم طريقة جديدة للفهم. أتذكر هنا ما كتبه مارك هانسن في "Feed-Forward" حين تحدّث عن التكنولوجيا باعتبارها لا تغيّر الأدوات فقط، بل تغيّر وعينا نفسه. وهذا ما يحدث بدقّة في صحافة الدرون: رؤية من فوق تعني رؤية أبعد، وأقل خضوعاً للرقابة الأرضية.
قناة الجزيرة الإنجليزية، مثلاً، نشرت قبل مدة سلسلة تقارير عن الهجرة في عمق الصحراء، وكانت اللقطات الجوية تكشف مسارات لا يعرفها حتى بعض موظفي المنظمات الإنسانية. من الأعلى، كانت الرمال تبدو مثل جلد حيّ يتحرّك، وكانت الخطوط التي تتبعها قوافل المهاجرين ترسم شيئاً أقرب إلى شريان طويل يقطع الصحراء. الصورة لم تعد مجرد وثيقة، بل تحوّلت إلى قصّة مكتوبة بالضوء.
غير أنّ هذا التحوّل يجرّ معه سؤالاً أخلاقياً لا يمكن تجاهله. ففي تقارير Reporters Without Borders كثير من النقاش حول الخصوصية وسيادة الدول، خصوصاً بعد أن تم إسقاط طائرات صحافية قرب مناطق نزاع حسّاسة. التقنية هنا تمدّ الصحافة بجناحين، لكنها في الوقت نفسه تضعها أمام حدود لا يمكن تجاوزها بلا حساب.
ومع كل هذا الجدل، يبدو المستقبل متجهاً نحو قبول أوسع لهذه الأدوات. فالصحافي الذي كان يحمل كاميرا على كتفه صار الآن يتحكّم في طائرة كاملة بيديه، يقرّبها ويبعدها كما لو أنّه يكتب الجملة التي يريد أن يراها الجمهور. والحدود – تلك الخطوط الموصدة – لم تعد قادرة على إخفاء ما تخفيه مثل السابق.
وربما، في النهاية، هذا هو التحوّل الأعمق: أنّ الدرون لم تغيّر شكل الصورة فقط، بل غيّرت منطق السرد. الحدود لم تعد جداراً صامتاً، بل صفحة بيضاء تكتبها عينٌ تطير، تسمع وتلتقط وتدوّن، كما لو أنها تحاول أن تقول لنا: الحقيقة واسعة… لكنها تحتاج أحياناً إلى جناحين.








0 التعليقات:
إرسال تعليق