من السهل أن ينبهر المتلقي من أول وهلة بقدرة النماذج اللغوية على صياغة نصوص منسابة، وتراكيب محكمة، وأفكار تبدو كأنها من روح كاتب تمرّس لسنوات طويلة. لكن تحت هذا الضوء الباهر تتوارى حقيقة جوهرية: ChatGPT مهما تطوّر يظل عاجزًا عن الإبداع بالمعنى الوجودي والمعرفي للكلمة. فالإبداع ليس مجرد توليد كلام جديد، ولا مجرد تركيب مبتكر لما هو متاح، بل هو فعل وجودي ينبع من تجربة إنسانية حية تتقاطع فيها الذاكرة والوجدان والجرح الشخصي والقلق والرغبة في الفهم.
يمكن للآلة أن تُحاكي بنية القصيدة، وإيقاع الرواية، وصرامة المقال الفلسفي؛ لكنها لا تعرف لماذا تكتب، ولا تشعر باللذة أو بالألم ولا تعيش المخاطر التي تجعل الكاتب الحقيقي ينتج ما يشبه أثرًا بشريًا محفورًا في الزمن. الإبداع ليس صياغةً لغوية فقط، بل هو انفعال قبل أن يكون إنشاء، وهو سؤال قبل أن يصبح جوابًا.
من الناحية التقنية، يعمل ChatGPT عبر نماذج احتمالية تستند إلى ملايين الجمل والأفكار المستخرجة من نصوص البشر. هو لا يُبدع، بل يتعرّف على أنماط الإبداع ويعيد تشكيلها. لا يخترع فكرة من العدم، بل يُركّب تلاقيات لغوية جديدة استنادًا إلى مخزون هائل سبقه إليه آخرون. كل جملة يكتبها هي نتيجة حساب، لا نتيجة معاناة أو دافع داخلي. ولعلّ هذا ما يجعل نصوص الذكاء الاصطناعي، رغم طلاوتها، تظل بلا جرح، بلا خوف، بلا تاريخ شخصي يسكب في كل كلمة ظلّ حياة عاشها صاحبها.
الإبداع الإنساني هو ابنُ الندبة والخيبة والطفولة المكسورة والحنين إلى الغائب والذنب الذي لا يُغتفر. الكاتب يكتب لأن هناك لغزًا ما يطارده، صورة ما تطلّ من الماضي، هزيمة ما لم يستطع تجاوزها، حبًّا ضاع منه، أو وطنًا فقد ملامحه. أما الآلة فلا تمتلك ما تخسره ولا ما تحلم باستعادته. لذلك تأتي نصوصها ملساء، خفيفة، ممتعة أحيانًا، لكنها خالية من الطنين الداخلي الذي يُحدث صدعًا في القارئ.
حتى النظريات الحديثة في علم الإبداع، مثل أطروحات "مارغريت بودن" في كتابها Creativity and Artificial Intelligence، تذهب إلى أن ما تنتجه الآلة هو “إبداع احتمالي” وليس “إبداعًا تحويليًا” بالمعنى العميق. فالآلة قادرة على توليد تراكيب غير مألوفة، لكنها غير قادرة على إعادة تعريف المفاهيم أو قلب الطاولة على الأنظمة الثقافية كما فعل بودلير، كافكا، ابن عربي، نيتشه، أو حتى روائي لقي صوته خلال تجربة شخصية غير قابلة للنسخ.
الإبداع فعل يتجاوز اللغة، ويحتاج إلى وعي بالذات والعالم، وإلى علاقة مُعقّدة بين العقل والجسد واللاشعور. ولا يمكن لأي نموذج أن يحاكي لاشعورًا لم يعشه، ولا ذاكرة لم يتكوّن فيها، ولا جسدًا لم يتحسس العالم بجلده. إن نصًّا يولده الذكاء الاصطناعي يشبه مرآة صافية تعكس كل شيء ولكنها لا تسكن أي شيء؛ تعكس الوجوه لكنها لا تعرف من أصحابها.
ومع ذلك، تكمن قيمة ChatGPT في شيء آخر: هو شريك لغوي ممتاز، أداة تساعد على الصياغة، البناء، التحرير، التوسيع، والتفكير. لكنه ليس مُبدعًا بالمعنى الفلسفي أو الجمالي، ولا يمكن أن يكون وريثًا للكتابة البشرية التي تشكّلت عبر آلاف السنين من الألم والتجربة والخوف والعشق والسقوط والقيام. الإبداع يظل ملكًا للإنسان ما دام الإنسان كائنًا يطرح الأسئلة لا ليجيب عنها، بل لأنه لا يحتمل صمتها.
ولهذا كله، سيظل ChatGPT يكتب، لكن الكتابة الحقيقية ستظل تأتي من المناطق التي لا يستطيع أي نموذج أن يدخلها: المعاناة، الذاكرة، الحلم، والسرّ الشخصي. فالآلة تحاكي النص، أما الإنسان فيكتب حياته.








0 التعليقات:
إرسال تعليق