يبدو أنّ الصحافة وهي تدخل عتبة الميتافيرس ـ هذا الفضاء الافتراضي الذي يمزج بين الواقعي والرقمي، بين الحضور المادي والوجود الرمزي ـ تواجه واحدة من أعقد التحوّلات في تاريخها منذ اختراع الطباعة. فالانتقال من صفحات الجرائد إلى الشاشات لم يكن سوى مقدّمة لمرحلة أكثر راديكالية، حيث يصبح الخبر تجربة حسّية ثلاثية الأبعاد، ويغدو الصحفيّ ليس ناقلًا للمعلومة فحسب، بل صانعًا لبيئات سردية تفاعلية تحيط بالقارئ كما يحيط الماء بالسمكة.
في هذا العالم الغامر، يعاد تعريف مفاهيم الحقيقة والمصداقية. فإذا كانت الصحافة التقليدية ترتكز على التحقّق من المصدر، فإنّ الميتافيرس يطرح سؤالًا أعمق: ما معنى المصدر في فضاء تُنتج فيه الهويّات نفسها رقميًا ويمكن تقليد الأصوات والوجوه بأسلوب الواقع المعزّز؟ لقد نبّهت دراسات صادرة عن Harvard Kennedy School (2024) إلى أنّ قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد صور وأحداث وهمية داخل بيئات الميتافيرس قد تفتح الباب أمام موجة جديدة من “الأخبار التجريبية”، أي تلك التي تُبنى لتجعل المستخدم يشعر بالحقيقة بدل أن يتحقّق منها. وهنا تتبدّى المعضلة الأخلاقية الكبرى: هل ستبقى الصحافة التزامًا معرفيًا أم تتحوّل إلى أداء شعوري؟
إنّ التحدّي الأخلاقي الأبرز في الصحافة الميتافيرسية هو مسألة المساءلة. فمن يحاسب المراسل إذا كان يعمل من داخل عالَم افتراضي يصعب ضبط حدوده الجغرافية والقانونية؟ تقارير Reuters Institute لعام 2025 حذّرت من أنّ المؤسسات الإعلامية التي تنشئ قنوات داخل الميتافيرس قد تواجه صعوبات قانونية في ما يخصّ جمع البيانات الشخصية للمستخدمين دون علمهم، بما في ذلك الإيماءات، ونبرة الصوت، وأنماط الحركة، وهي بيانات تُعتبر من أكثر أشكال الهوية خصوصية. هكذا تتقاطع الصحافة بالاقتصاد المعرفي وبصناعة المراقبة الرقمية، في تكرارٍ حديثٍ لما وصفه شوشانا زوبوف في كتابها “عصر الرأسمالية المراقِبة”، لكن داخل بيئة أكثر تعقيدًا وحميمية.
أما على المستوى المهني، فإنّ الميتافيرس يضع الصحفي أمام تحدٍّ جديد في مهارة السرد. فبدلًا من كتابة مقال أو إعداد تقرير مصوّر، سيُطلب منه بناء تجربة غامرة تُشرك المستخدم في قلب الحدث. تخيّل مثلًا تغطية حربٍ أو أزمة إنسانية حيث يستطيع المتلقّي أن يسير وسط الأنقاض ويرى الدمار بعينيه داخل بيئة افتراضية. هذه التجارب قد تعزّز التعاطف، لكنها قد تنزلق أيضًا نحو “الدراما المفرطة”، فتغدو الصحافة استعراضًا للألم بدلًا من نقل الحقيقة. وهنا يعود السؤال القديم في ثوب جديد: إلى أيّ حدّ يمكن للفنّ أن يخدم الحقيقة دون أن يبتلعها؟
لقد بدأت مؤسسات كبرى كـBBC وThe New York Times وAl Jazeera Media Lab في اختبار غرف أخبار افتراضية داخل الميتافيرس، تتيح التفاعل المباشر مع الجمهور. لكنّ هذه المحاولات، على حداثتها، تكشف هشاشة الإطار التنظيمي لهذا النوع من العمل. فلا توجد حتى الآن مواثيق دولية تحدّد ضوابط الممارسة الصحفية في البيئات الغامرة، كما لا توجد معايير موحّدة للتمييز بين الصحافة الموثوقة والمحتوى التجاري الذي يتخذ قناع الخبر وسيلة للتأثير أو التلاعب.
ومع ذلك، فإنّ الميتافيرس لا ينبغي أن يُختزل في كونه خطرًا على القيم الصحفية، بل يمكن أن يكون فرصة لإعادة بناء العلاقة بين الإعلام والجمهور. ففي بيئة تُتيح التفاعل اللحظيّ والوجود المشترك، يمكن للصحافة أن تستعيد ثقة القرّاء من خلال الانفتاح والشفافية والمشاركة في إنتاج المعنى. ولعلّ المفكر الألماني يورغن هابرماس، لو عاش هذه المرحلة، لعدّل مفهومه عن “الفضاء العمومي” ليشمل العوالم الافتراضية حيث تتشكّل الآن النقاشات الكبرى، ويتحوّل الوعي الجمعي إلى تجربة تفاعلية بين العقل والجسد والآلة.
في النهاية، يفرض الميتافيرس على الصحافة أن تعيد التفكير في ذاتها: لا كصناعة محتوى فحسب، بل كفعل حضاريّ جديد يربط بين الحقيقة والتجربة، بين الأخلاق والتقنية. إنّ مستقبل الصحافة في هذا العالم المتعدّد لن يُقاس بعدد المتابعين أو سرعة النشر، بل بقدرتها على حفظ إنسانيّة الإنسان وسط فيضٍ من الواقع المصنوع. فالميتافيرس ليس مجرّد شاشة أخرى، بل مرآة رقمية تعكس ما نحن عليه… أو ما قد نصبحه.







0 التعليقات:
إرسال تعليق