الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، نوفمبر 17، 2025

بين القصيدة والبعد الخفي: نحو تجربة شعرية معزَّزة بالواقع الممتد بقلم: عبده حقي

 


في اللحظة التي تتقدّم فيها التكنولوجيا بخطى لا تهدأ، يجد الشعر نفسه أمام منعطف جديد يتجاوز حدود الورقة والحبر، ويتحرّر من قيود الصوت والإنشاد لينفتح على فضاء بصري متعدد الطبقات. لم تعد القصيدة تُقرأ فحسب، بل صار بالإمكان الدخول إليها، التجوّل بين أجنحتها، وملامسة الصور التي لطالما اكتفت اللغة برسمها على نحو مجازي. هنا تتولد تجربة هجينة تجمع بين جماليات الشعر وطاقات الواقع المعزّز، فتغدو القصيدة فضاءً حيّاً يتفاعل مع الجسد والنظر والذاكرة معاً.

لقد سعت الكثير من الأعمال الأدبية الحديثة، خصوصاً في العقد الأخير، إلى إعادة تصور العلاقة بين النص والقارئ عبر تقنيات الوسائط المتعددة. ويكفي أن نستحضر ما ناقشه بول ريكور في "الزمن والسرد" عن قدرة النص على إعادة تشكيل إدراك العالم، لنفهم كيف أن التكنولوجيا — وتحديداً الواقع المعزّز (AR) — لا تُضاف إلى الشعر بوصفها تزييناً خارجياً، بل كامتداد لطبيعته التأويلية. فالصورة الرقمية ليست سوى طبقة أخرى من التخيل، تماماً كما أشار والتر بنيامين في "العمل الفني في عصر الاستنساخ التقني" حين تحدث عن التحولات العميقة التي تصيب الفن عند امتداده تقنياً.

يمنح الواقع المعزز للقصيدة جسداً دون أن يفرغها من روحها، ويُبقي على مساحة التأويل مفتوحة كما لو أن الكلمات صارت نوافذ تتحرك مع كل حركة للكاميرا أو الجسد. فإذا مرّ القارئ بهاتفه على سطر شعري، قد تتشكل أمامه صورة لهب يتصاعد، أو شجرة تنمو، أو خريطة تحترق، من دون أن يتحول ذلك كله إلى معنى نهائي مغلق. كأن الشعر يعود إلى أصله الأول: إشارات ورموز وطبقات من الاحتمالات، لا إلى جملة ذات معنى واحد.

هكذا يمكن للقصيدة أن تعيش في المكان نفسه الذي يعيش فيه القارئ. يتجوّل عبر الشارع فتنفتح أمامه أبيات عن المدينة، أو يقف قبالة البحر فيجد بيتاً من الشعر يطفو مع حركة الأمواج، كما في بعض التجارب التي جرى عرضها خلال مهرجان الأدب الرقمي في تورنتو 2023، حيث تحوّلت القصائد إلى كائنات طافية تتفاعل مع الضوء والصوت والزاوية البصرية.

في الكتب الورقية، يظل حضور القارئ ذهنياً في المقام الأول؛ غير أن تجربة الواقع المعزّز تدفعه إلى مقام آخر: المشاركة الحسية. إنّ الحركة ذاتها تصبح طريقة للقراءة، تماماً كما أسّس رولان بارت لفكرة "لذّة النص" بوصفها انخراطاً حسياً ومعرفياً في آن واحد. في تجربة شعرية معزّزة، لا يجلس المتلقي إلى النص، بل ينهض إليه، يدور حوله، يقيس مسافاته، ويراقب الصور وهي تُولد وتموت.

تتخذ القصيدة هنا طابعاً مسرحياً، إذ تقارب أحياناً ما سمّته آن ماري ديل في كتابها حول الأدب التفاعلي بـ"الكتابة المنصاتية" التي تتوزع عبر طبقات من الوسائط. وفي هذا السياق، يصبح القارئ أقرب إلى ممثل صغير يؤدي دوراً داخل النص، فتتحوّل القصيدة إلى لعبة من الضوء والعين، من دون أن تفقد جذوتها اللغوية.

قد يظن البعض أن دخول التكنولوجيا إلى الشعر يعني انزلاقه نحو الفرجة السطحية؛ لكن هذا الاعتقاد يختزل التجربة في شكلها الخارجي فقط. فالحقيقة أن الشعر، في كل تحولاته الكبرى، كان يبحث عن وسيلة جديدة لتفجير اللغة. لقد فعلها أبو تمام حين كسّر توقعات المعنى، وفعلها بودلير عندما دفع الصورة إلى حافتها الرمزية، وفعلها محمود درويش عندما جعل الجسد ذاكرةً والمكان استعارة كونية.

وليس بعيداً عن ذلك، يأتي الواقع المعزّز ليعطي للشعر أفقاً جديداً: أفقاً يجعل الصورة المجازية قابلة للتجسد، من دون أن تفقد طابعها الرمزي. فالفرق بين صورة تُقرأ وصورة تُرى ليس فرقاً في القيمة الجمالية، بل في طبيعة الانفعال. الأولى تهزّ الروح، والثانية تهزّ الجسد معها.

من بين أبرز الإشكالات التي أثارتها الدراسات الحديثة — مثل مقالات "The Poetry Foundation" حول الشعر الرقمي — هو السؤال المتعلق: هل تحتفظ اللغة بسلطانها في فضاء تغمره الصورة؟
الإجابة ليست بسيطة. فاللغة، في الواقع المعزز، تتخلى عن مركزيتها المألوفة، لكنها لا تفقد أهميتها. بل تتحوّل إلى ما يشبه مفتاحاً بصرياً: كلمة تفتح باباً لصورة، أو سطراً يحرّك صوتاً أو خريطة أو مشهد ظل. كأن الشعر يتعلم أن يرى، كما لو أن اللغة استعادت عينيها بعد قرون من التحليق في المجاز.

هنا تحديداً تتجلى القيمة الفنية الحقيقية: ليست التقنية هي التي تمنح الشعر عمقه، بل التفاعل بين الكلمة والصورة، تماماً كما يحدث في فنون الهايكو الياباني المعاصر الذي يستثمر الإيقاع البصري ليصنع لحظة تأملية مركّزة، أو كما في نصوص عفيفي مطر التي كانت عامرة بصور يمكن أن تتحول بسهولة إلى مشاهد بصرية.

تُعلّمنا التجارب الأولى للشعر المعزز أن كل صورة رقمية تحمل قدراً من الهشاشة؛ فهي قابلة للزوال مع انطفاء الشاشة أو انتهاء التطبيق. لكن الشعر، كما يؤكد ميرلوبونتي في كتابه حول الإدراك، ليس في دوام الصورة، بل في أثرها على الوعي. قد تختفي الصورة الرقمية، لكن ما يترسخ في الذاكرة هو ذلك الارتجاج العميق الذي يُحدثه التقاء الصوت بالضوء، واللغة بالحركة.

في العالم العربي، ما زالت تجارب الواقع المعزّز الشعرية في بداياتها، لكنها تتقدّم بخطوات واثقة، كما في مبادرة "مختبر الشاعر الرقمي" في الدوحة، أو مشاريع منصة "أدب تِك" في الرباط التي عرضت خلال العام الماضي نماذج أولية لقصائد تتفاعل مع المباني والمواقع التاريخية. كل ذلك يشير إلى أن الشعر العربي — الممتد من المعلقات إلى قصيدة النثر — قادر على أن يمد جذوره في هذه الأرض الجديدة من دون أن يخسر هويته.

ليس من المبالغة القول إن الشعر، عبر الواقع المعزّز، ينتقل من نص يُقرأ إلى تجربة تُعاش. ومن هذا المنعطف الجديد يتولد سؤال المستقبل: كيف سيكتب الشعراء قصائدهم في زمن تتداخل فيه اللغة مع الضوء، والخيال مع الهندسة الرقمية؟
الإجابة التي يقدّمها الواقع اليوم ليست وعداً ولا تهديداً، بل احتمالٌ يُشبه تلك الشرارة التي تنبثق حين تلامس القصيدة قلب القارئ: لحظةٌ يتجاور فيها المرئي واللامرئي، ويتحوّل الشعر إلى فضاء يظل مفتوحاً على كل أشكال العبور.

هذه هي القصيدة كما أراها اليوم في زمن الواقع المعزز: نصٌّ لا يقف عند حافة الصفحة، بل يمدّ يده إلى العالم، ويدعو قارئه إلى مرافقة الضوء وهو ينساب بين الكلمات.


0 التعليقات: