لا أعرف لماذا يعود إليّ هذا السؤال كلما أمسكتُ بقلم، وكأني أستعيد تلك الحيرة التي رافقت الفلاسفة منذ قرون: كيف يمكن أن نتحدث عن المعرفة الرياضية بثقة مطلقة، بينما الأرقام التي نتعامل معها لا تسكن العالم الذي نلمسه، ولا تتنفس بين الأشياء؟ عاد اسم بول بنسراف إلى ذهني وهو يُشير إلى هذه الهوّة الغريبة: نحن نؤمن بأن للرياضيات حقيقة ما، لكنها حقيقة لا تشبه الحقائق الأخرى؛ فهي لا تقع في مكان، ولا تخضع لزمن، ومع ذلك فإننا نصل إليها بعقولنا كأننا نمدّ أيدينا إلى شيء حاضر أمامنا.
كنتُ أتأمل ما يقوله بنسراف: إذا كانت الحقائق الرياضية موجودة بالفعل، فأين تقيم؟ وإذا لم تكن موجودة إلا في أذهاننا، فكيف أمكن لأذهان متباعدة في التاريخ والجغرافيا أن تصل إلى النتائج نفسها بلا اتفاق سابق؟ خذ مثلاً نظرية فيثاغورس: إنها هنا أمامنا، صلبة، لا تهتز. لكن، أين كانت قبل أن نكتشفها؟ هل كانت نائمة في ركن ما من الوجود، أم أننا نحن الذين نسجناها، ثم صدقنا قسوتها المنطقية بعد ذلك؟
ما يجعل هذه المعضلة أكثر إرباكًا هو ذلك الشعور الذي يخالج كل دارس للرياضيات: عندما نصل إلى برهان ما، لا يبدو أننا صنعناه صناعة، بل كأننا كشفناه كشفًا. تلك الدهشة التي تسبق اليقين، وتشبه إلى حدٍّ ما لحظة العثور على مفتاح مفقود. هنا تحديدًا يُلوّح بنسراف بإصبعه قائلاً: إن كنتم تؤمنون بأنكم تكشفون، فمن حقنا أن نسأل: ماذا كنتم تكشفون بالضبط؟
أحيانًا أفكر في الأمر بطريقة بسيطة: هل تُشبه الحقائق الرياضية تلك النجوم التي لا تراها العين بسهولة لكنها موجودة في السماء؟ أم تُشبه القصص التي نكتبها فنصدقها، ثم تصبح جزءًا من الذاكرة العامة؟ لكن الفرق أن الرياضيات لا تقبل التخمينات؛ إنها أكثر صرامة من أي سردٍ يمكن أن نبتكره. وهذا ما يجعل سؤال بنسراف مزعجًا: إن كانت الرياضيات من صنع الإنسان، فلماذا تتعالى على أهوائه؟ وإن كانت خارجه، فكيف يصل إليها هذا الكائن العابر الذي لا يملك سوى دماغ صغير محدود؟
كلما حاولت أن أقترب من الجواب، يتسرب الجواب من بين يدي مثل ماء خفيف. ربما لأن السؤال أصلاً أكبر من أن يطويه مقال واحد. وربما لأن الرياضيات لا تكشف عن ملامحها إلا لمن يعيش معها طويلًا، ويصبر على صمتها. لكنني على الأقل خرجتُ بخلاصة صغيرة: القوة الحقيقية في معضلة بنسراف ليست كونها مشكلة تنتظر حلًّا، بل كونها مرآة تُرينا حدود معرفتنا، وتُذكّرنا بأن ما نظنه واضحًا لا يكون واضحًا دائمًا.
وربما، وهذا مجرد ظن، سنظل نكتب حول هذا اللغز كما يكتب شخص في دفتره كل مساء عن شيء أبقاه حيًّا رغم أنه لم يفهمه تمامًا.








0 التعليقات:
إرسال تعليق