لا يبدو حضور تقنيات اللعب داخل الرواية مجرّد بحث عن إبهار شكلي أو عن تجريب عابر، بل هو تحوّل هادئ—وإن كان عميقاً—في طريقة فهمنا للعلاقة بين الكاتب والقارئ، وبين الحكاية ومن يتلقّاها. فالرواية، التي ظلّت طويلاً وفية لنموذج خطّي يُملي على القارئ مساراً واحداً، بدأت تُفسِح المجال لبنية سردية تُشبه المتاهة: كلّ طريق يُفضي إلى آخر، وكلّ قرار يفتح باباً جديداً. هنا بالضبط تتقاطع الفنون الأدبية مع الفلسفة السردية للألعاب الرقمية.
تتّضح ملامح هذا التحوّل في أعمال نقدية معاصرة مثل كتاب Narrative as Play لستيوارت مولثروب، وفي دراسات إسبن آرسيث حول «الإرجوديك»، حيث يصبح القارئ مطالباً ببذل جهد معرفي يشبه جهد اللاعب، ويمارس نوعاً من «الاختيار» الذي يغيّر شكل التجربة. وتبدو المقارنة بين القارئ واللاعب شبيهة بمرآتين متقابلتين؛ تتبادل كلّ واحدة منهما الضوء، فلا يعود ممكناً فصلهما.
لقد أثبتت بعض التجارب الروائية الحديثة—منها الرواية التفاعلية اليابانية 428: Shibuya Scramble التي أثارت اهتمام باحثي السرد التفاعلي—أن إدماج آليات اللعب لا يقلّل من القيمة الأدبية، بل يفتح أمام النص أبواباً جديدة لتمثيل الزمن والهوية والذاكرة. فكلّ خيار يقدّمه السرد يشبه حجراً يُرمى في بركة من المعاني، فتتوالد الدوائر وتتداخل.
اللافت أنّ هذا الشكل السردي يمنح القارئ نوعاً من «الوكالة»؛ أي القدرة على تعديل اتجاه القصة، أو التأثير في نتائجها، وهو ما يشبه إلى حدّ كبير التحوّل السياسي الذي وصفه هنري جينكينز في مقالته الشهيرة عن «ثقافة المشاركة». فالقارئ لم يعد متفرّجاً صامتاً، بل يتحوّل إلى شريك، بل وإلى لاعب يُعيد ترتيب العالم الروائي وفقاً لقراراته. وكما يحدث في الألعاب، يمكن أن يعيد القارئ التجربة مراراً، وفي كلّ مرّة تُكشَف له طبقة جديدة من السرد.
يتوافق هذا المسار مع التقدّم الهائل في تقنيات الحوسبة والذكاء الاصطناعي وأدوات الواقع التفاعلي، التي أتاحت للرواية أن تصبح فضاءً حيّاً يتغيّر في كلّ قراءة. فالرواية الملعْبَنة ليست بديلاً عن الرواية التقليدية، بل ابنتها التي خرجت إلى العالم بخطى فضولية، تبحث عن طرق جديدة لقول القصص التي لم يتمّ سردها بعد.
ولعلّ السؤال الذي يلوح في الأفق اليوم لا يتعلّق بمدى مشروعية هذا النوع من الأدب، بل بقدرته على إعادة تشكيل العلاقة بين التفكير الإنساني والخيال. قد تكون «الرواية الملعْبَنة» في نهاية المطاف أشبه بلعبة مرايا؛ كلّ قارئ يرى فيها انعكاسه، وكلّ قراءة تُنقذ السرد من الجمود، وتعيد إليه تلك الحيوية التي تجعل النصّ مساحة تشارك حقيقي، لا مجرّد حكاية تُقرأ ثم تُطوى.








0 التعليقات:
إرسال تعليق