أحيانًا أفكر، قبل أن أبدأ في الكتابة، أن الرواية كما عرفها جيل الأسلاف لم تعد هنا. شيء ما تبدّل، ليس فقط في طريقة الحكي، بل في مكان الحكاية نفسها. كأنّ النص خرج من دفاتر الورق وراح يبحث له عن حياة ثانية، حياة لا تُقفل فيها الصفحة ولا تُطوى، بل تظل مفتوحة، يتنفس فيها الكاتب والقارئ معًا. كل هذا يحدث في فضاء يلمع أمامنا… شاشة، ضوء، تعليق، ردّ، لحظة عابرة تصبح جزءًا من قصة أطول مما نتوقع.
واللافت أن هذا التحول لم ينفجر فجأة. لقد بدأ تدريجيًا، كقطرة أولى تنزلق فوق زجاج نافذة في ليلة شتائية. شيئًا فشيئًا، صار القراء يتابعون كتّابًا ينشرون فصولًا على “إنستغرام”، كما فعلت الروائية البريطانية إيما غانو، أو على تويتر خلال Twitter Fiction Festival 2012، ثم يكتشفون أن الحكاية تكبر أمام أعينهم. الغريب أن التفاعل مع القصّة أصبح جزءًا منها، حتى بدا الأمر كما لو أن القراء يمدّون الكاتب بخيط يلمس كتفه ويقول له: “أكمل من هنا”.
هذا المشهد كله يُشبه ما تحدث عنه هنري جنكينز في كتابه Convergence Culture: فكرة الانصهار بين الوسائط. لكن على وسائل التواصل، الانصهار ليس مجازيًا؛ إنه حيّ، نابض، يحدث في اللحظة، ويغيّر مجرى الأحداث كما تغيّر الريح اتجاه لهب شمعة. القارئ لم يعد يسكن خارج النص، بل يدخل إليه بخطوات واضحة، يعلّق، يقترح، أحيانًا ينتقد، وأحيانًا يعيد ترتيب المشاهد كما يراها هو.
والنتيجة أن النص لم يعد ملكًا خالصًا للكاتب. ثمة يد ثانية، وثالثة، وعاشرة، تلمس ملامحه. بعض الكتّاب يرون في هذا الاقتحام نوعًا من الفوضى، بينما يجد آخرون فيه ما لم تكن تمنحه الرواية التقليدية: الإحساس بأن النص حيّ حقًا، وأنه يتغير، ويكبر، ويعيد تشكيل نفسه في كل لحظة.
الكتابة على وسائل التواصل ليست فقط تغييرًا في المكان، بل في الإيقاع أيضًا. الجملة هنا أقصر، أكثر يقظة، كأنها تقف على أطراف أصابعها. الصورة، الفيديو القصير، الحركة السريعة… كلها عناصر تحاول أن تمسك بانتباه قارئ يعيش داخل عالم تتغير فيه الأشياء بسرعة لا تتيح للمرء حتى أن يلتقط أنفاسه. وقد أشار الروائي الأمريكي ديف إيغرز إلى هذا المعنى حين قال إن الكتابة الرقمية “تنسيق للإيقاع الذهني للقارئ بقدر ما هي كتابة للنص”.
ومع هذا، لا يمكن الادعاء بأن هذا الشكل الجديد سيطيح بالرواية الورقية. المسألة أعقد من مجرد صراع بين وسيطين. النص الورقي ما يزال يحمل هيبته الثقيلة، تلك الهالة التي لا يمنحها سوى الورق. لكن النص الرقمي يمدّ يده نحو آفاق لم تكن ممكنة: التفاعل اللحظي، التعديل المستمر، حسُّ المشاركة، وانفتاح النص على احتمالات كثيرة. وكأن الرواية الحديثة تقول لنا: “أنا لا أتنازل عن أصلي، لكنني لم أعد أرغب في البقاء داخله فقط.”
من الصعب، بل من المستحيل، أن نرسم حدودًا نهائية لهذا التحول. فالعالم الرقمي ذاته لا يعرف معنى الحدود؛ إنه فضاء يتسع كلما ظننا أنه اكتمل. والروايات التي تنمو داخله، على “فيسبوك” أو “تيك توك” أو “إنستغرام”، لا تُشبه بعضها، بل تحمل روحًا تتغير وفقًا لطبيعة الجمهور وطبيعة الكاتب وطبيعة اللحظة.
ربما لهذا السبب بالذات تبدو الرواية على وسائل التواصل الاجتماعي مثل نهر يغيّر مجراه كلما خفق قلب جديد يقرأ. هي ليست حكاية تُكتب وتُغلق، بل تجربة مشتركة، طقس قراءة حيّ، علاقة تمتدّ خارج الصفحة نحو شيء يشبه الحياة نفسها: متقلبة، متحركة، مفتوحة على ما لا يمكن التنبؤ به.








0 التعليقات:
إرسال تعليق