الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 11، 2025

فلتر الحقيقة: كيف تُعيد وسائل التواصل تشكيل وعينا بالأخبار العاجلة؟ عبده حقي

 


يخيّل لقارئ المشهد الإعلامي اليوم أنّ الخبر لم يَعُد يولد من الواقع بل من الشاشة نفسها، كأنّ طبقة خفيفة من الضباب الرقمي تُعادِل في تأثيرها صرير الأقلام القديمة، ولكن مع قدرة أكبر على الإخفاء والإظهار. فمع تصاعد اعتماد المستخدمين على ما تبثّه الشبكات الاجتماعية، أصبح “الفلتر” البصري أكثر من مجرد أداة تجميل؛ لقد صار أشبه بعدسة معرفية تعيد ترتيب العالم وفق مزاج الخوارزميات لا وفق إيقاع الأحداث الحقيقية.

تتضح خطورة هذا التحوّل في اللحظات التي تُصنَّف بوصفها “عاجلة”. ففي خضم التدفق السريع للأخبار، يتحوّل الفلتر إلى وسيط يصنع انطباعاً يسبق الواقع، ويخلق شعوراً بوجود قصة متكاملة حتى قبل أن تُكتَب تفاصيلها. وتشير دراسة نشرتها Harvard Kennedy School إلى أنّ الصور المفلترة على منصّات مثل إنستغرام وتيك توك تغيّر مستوى الثقة في الخبر بنسبة قد تصل إلى 38%، وهو رقم يكشف هشاشة العلاقة بين الشكل والمضمون في الوعي الجماعي المعاصر.

ويستحضر هذا الأمر ما قاله نيكولاس كار في كتابه The Shallows حين تحدّث عن قدرة الوسائط الرقمية على “إعادة تشكيل خرائط الدماغ”. فقد أصبح المستخدم يعيش الخبر لا عبر ما وقع فعلاً، بل عبر ما تسمح به أدوات القصّ واللصق والتلوين وتنعيم الملامح. فالصور التي تُرْفَق بخبر عاجل لم تعد تشير إلى واقع موضوعي كما هو، بل إلى نسخة محسّنة منه، تشبه إلى حدّ بعيد لوحة زيتية تُخفي تحت ألوانها طبقات غير مرئية من الشطب والتعديل.

ويزداد المشهد تعقيداً حين تُستعمل الفلاتر في تغطية النزاعات والكوارث. فقد لاحظ صحافيون في The Guardian خلال تغطية انفجارات مرفأ بيروت أنّ متابعين كُثراً أعادوا نشر صور “مفلترة” تبدو أكثر قتامة أو أكثر إشراقاً مما هو موجود على الأرض، مما أعطى للأحداث طابعاً درامياً مضاعفاً، ووجّه الرأي العام نحو قراءة عاطفية لا واقعية. كأنّ الفلتر هنا لا يجمّل الصورة بل يعيد كتابة التاريخ بطريقة ناعمة وشبه شاعرية.

ويعترف بعض الباحثين في الإعلام الرقمي بأنّ الفلتر قد تحوّل إلى نوع من “سلطة جمالية” تحدد مزاج الجمهور. فالمتلقي بات يميل إلى تصديق ما يتوافق مع حساسيته البصرية، حتى لو كان أقل دقّة. وهذا يقود إلى ما يسميه Neil Postman في كتابه Amusing Ourselves to Death بـ“الانزلاق نحو الترفيه”، حيث يصبح الخبر نفسه مادة للتزيين، مثل سلعة تروَّج بجاذبية الصورة قبل عمق المعنى.

ولا يمكن تجاهل أثر هذه الظاهرة على غرف الأخبار التقليدية. فالقنوات تجد نفسها مضطرة إلى مجاراة المعايير الجمالية التي تفرضها المنصات الرقمية، لا لشيء سوى لمنافسة “الإبهار البصري” الذي أصبحت الفلاتر تتقنه بامتياز. وهكذا تتقلّص المسافة بين الصحافة والسينما، ويغدو الخبر مشهداً مكتملاً لا مجرد حقيقة ينبغي التحقق منها. لقد رأينا هذا في تغطية الحرائق الواسعة في كاليفورنيا عام 2023، حيث شكّلت الصور المفلترة جزءاً من انتشار الذعر أكثر مما شكّلته التقارير العلمية عن أسباب انتشار النيران.

ويدفع هذا التحوّل إلى سؤال أخلاقي عميق: ما الذي يحدث للوعي الجمعي حين تصبح الحقيقة مُفلترة قبل أن تُرى؟ إنّ الفلتر، في جوهره، ليس بريئاً. فهو يختار لنا زاوية، ويُسقط أخرى، وينعّم الملامح ليخفي القسوة أحياناً، ويضاعفها أحياناً أخرى. إنه أشبه بمرآة مُنمّقة تُظهر العالم كما نريده لا كما هو، ما يجعل المتلقي فريسة سهلة لما يمكن تسميته بـ“تضخيم الانفعال”، أي الحالة التي يُصبح فيها الشعور أهم من المعلومة.

ومع ذلك، لا يمكن القول إنّ الفلاتر شرّ مطلق. فبعض التحقيقات الصحفية المعاصرة استخدمت أدوات التعديل لإبراز التفاصيل التي قد لا تُرى بالعين المجردة، كما حدث في بعض المواد المنشورة على New York Times Visual Investigations، حيث ساعد تحسين جودة الصور في إعادة بناء مسارات الطائرات المسيّرة في مناطق النزاع. لكن هذه الحالات الاستثنائية لا تُلغي الحاجة إلى إطار أخلاقي واضح يشرف على استخدام الفلاتر في الأخبار العاجلة.

إنّ إعادة رسم الحدود بين الواقع وتمثيله أصبح مسؤولية مشتركة بين الصحفيين والمستخدمين والمشرّعين. فالعالم الرقمي، رغم اتساعه، يحتاج إلى بوصلة. وربما تكمن الخطوة الأولى في ترسيخ “ثقافة الشكّ الإيجابي”، تلك التي تدعو إلى النظر إلى كل صورة بوصفها احتمالاً للحقيقة لا الحقيقة نفسها. فالمتلقي الذي يدرك أثر الفلتر، لا يقع بسهولة في فخّ التهويل أو التضليل، بل يصبح قادراً على رؤية الطبقات الخفية التي تختبئ وراء الإضاءة الناعمة أو الظلال الثقيلة.

وفي نهاية المطاف، تبدو الفلاتر أشبه بحجاب رقيق يطفو فوق الخبر العاجل، لا يحجبه تماماً لكنه يغيّر لمعانه. وكما قال جون برجر في كتابه Ways of Seeing، “إنّ الطريقة التي نرى بها الأشياء تؤثّر في الطريقة التي نفهمها بها”. وهذه الحقيقة البسيطة تُلخّص جوهر الإشكال: إنّ رؤيتنا للأخبار لم تعد مباشرة، بل تمرّ عبر نسيج خفيف من الاختيارات التقنية التي صنعت “واقعية جديدة” متداخلة، لا يمكن فهمها إلا بفكّ خيوطها طبقة بعد طبقة.

0 التعليقات: