في المغرب، يبدو أن سنة 2025 قررت أن تختم عامها على إيقاع موسيقي أكثر هدوءاً وعمقاً من مجرد مواسم صيفية صاخبة. فخلال الأيام الأخيرة عاد اسم فاس ليتردد بقوة في الأخبار، ليس فقط كعاصمة روحية، بل كمنصة موسيقية دولية؛ إذ حصد حفل مشترك مغربي–إيطالي في مهرجان فاس للموسيقى الروحية جائزة كبرى في مجال الدبلوماسية الثقافية، بعد أن جمع موسيقيين مغاربة وأوروبيين في تجربة تمزج الأنغام الأندلسية والصوفية بتوزيعات معاصرة، ليُقدَّم الحفل بوصفه نموذجاً لكيف يمكن للموسيقى أن تقوم مقام سفارة صامتة لكنها فعّالة بين الشعوب.
وفي الخلفية، تستعد مدن مثل الرباط والدار البيضاء وأكادير لنسخ جديدة من مهرجانات باتت جزءاً من “الخارطة الذهنية” لعشاق الموسيقى: من “موازين” و“جناوة” في الصويرة إلى “جازابلانكا” في الدار البيضاء، مع حديث متزايد في الصحافة الثقافية عن سعي المنظمين إلى موازنة حضور النجوم العالميين مع دعم الأصوات المغربية الصاعدة في الراب والتراب والأغنية البديلة. فكرة “المغرب منصة عبور” لم تعد مجرد شعار سياحي؛ بل أصبحت حجة يستخدمها منظمو المهرجانات لجلب فرق من إفريقيا وأوروبا في برمجة واحدة، حيث لا يتردد اسم كناوة فقط، بل إلى جانبه إلكترونيك وجاز وروك، في مشهد يبدو أحياناً كخلطة جريئة لكنها تعبّر بدقّة عن مزاج جيل جديد لا يحب التصنيفات الضيقة.
في العالم العربي الأوسع، تتجه الكاميرات هذه الأيام نحو الخليج، حيث تحولت السعودية والإمارات وقطر إلى محطات رئيسية في خريطة الحفلات الكبرى. في الرياض، يستعد جمهور ضخم لمهرجان “ساوندستورم 2025” الذي يوصف بأنه أحد أكبر التظاهرات الموسيقية في المنطقة، مع حضور أسماء عالمية مثل بوست مالون إلى جانب نجوم عرب كبلقيس، في مزيج يشي بأن الموسيقى لم تعد تُقسّم بين “شرقية” و“غربية” بقدر ما تُقسّم بين تجربة حية وأخرى افتراضية على المنصات الرقمية.
وفي الإمارات، تستعد دبي وأبوظبي لحفلات متوالية لنجوم من طراز هالزي وكايتي بيري، إلى جانب أسماء عربية ولبنانية ومصرية وخليجية، ما يعزز صورة الخليج كفضاء مفتوح للسياحة الترفيهية الموسيقية، حيث تتجاور حفلات البوب والراب مع الأمسيات الكلاسيكية وحفلات الغناء العربي الطربي في فضاء واحد.
في مصر والمغرب معاً، تظهر مفاجأة أخرى: فيلم موسيقي–وثائقي جديد بعنوان “الست” يحتفي بإرث أم كلثوم، انطلق أولاً من منصة مهرجان مراكش السينمائي قبل أن يُعرض في صالات القاهرة ثم يُخطَّط لتوزيعه عربياً، في خطوة تعيد الربط بين الصوت الكلاسيكي العربي والسينما المعاصرة، وتقدّم صورة أخرى للتعاون الثقافي المصري–المغربي، حيث لا تقتصر الشراكة على السياسة والاقتصاد، بل تمتد إلى الذاكرة الغنائية المشتركة.
وإذا تحركنا جنوباً نحو إفريقيا، سنجد أن القارة السوداء تعيش لحظتها الذهبية في عالم الإيقاعات. مشهد الأفروبِيت والأما بيانو يواصل عولمة نفسه بلا تردد؛ قوائم هذا العام لأفضل أغاني الأفروبِيت تعكس تنوعاً مذهلاً في الأسماء والبلدان واللغات، من نيجيريا وغانا والكاميرون وجنوب إفريقيا وصولاً إلى فنانين أفارقة في المهجر يعيدون تركيب الهوية عبر إيقاعات راقصة لكن محمّلة بدلالات سياسية واجتماعية. هذه الأغاني لم تعد ظاهرة هامشية؛ بل صارت تحتل مواقع متقدمة في قوائم الاستماع العالمية، وتظهر في أدلة المهرجانات الدولية التي تخصص مسارح كاملة للموسيقى الإفريقية في أوروبا والأمريكتين.
اللافت أن عدداً من التقارير الموسيقية بات يتحدث عن “غزو إفريقي معكوس”: فبدل أن تستورد القارة الأساليب الغربية، صارت عواصم مثل لاغوس وجوهانسبرغ وداكار محطات يزورها المنتجون العالميون للبحث عن الأصوات القادمة، وعن إيقاعات يمكن توظيفها في تعاونات مشتركة مع نجوم بوب من أمريكا وأوروبا. هذا التداخل لم يعد مجرد “مزج ألوان” للزينة، بل أصبح جزءاً من اقتصاد موسيقي حقيقي، يفتح أمام الفنان الإفريقي باباً جديداً نحو عقود إنتاج وبث عالمية، ويدفع شباباً كثيرين إلى رؤية الموسيقى كمهنة محتملة وليس مجرد هواية.
أما في إنجلترا، فلا تزال لندن تحتفظ بموقعها كأحد أهم “غرف القيادة” في صناعة الموسيقى العالمية. تقارير “الأوفيسال تشارتس” عن إصدارات “نيو ميوزك فرايداي” تكشف عن سيل متواصل من الألبومات والسينغلز الجديدة، مع حضور قوي لمغنيات البوب الشابات مثل سابرينا كاربنتر، التي يواصل ألبومها احتلال موقع متقدم بين إصدارات العام، إلى جانب بروز أسماء جديدة في مشاهد الإندي والروك والهيب هوب البريطاني.
وإلى جانب قوائم الألبومات، توضح “الترندينغ تشارت” التي ترصد الأغاني الأسرع صعوداً أن الجمهور البريطاني يميل أكثر فأكثر إلى الأغاني القصيرة المكثفة عاطفياً، وإلى التعاونات العابرة للأنواع، حيث يمكن أن تجد مغني راب مع موسيقية جاز أو مغنية بوب مع فرقة روك بديلة في أغنية واحدة، كأن السوق يعيش حالة تجربة مفتوحة لا تعترف بالحدود القديمة بين الأنواع.
في فرنسا، تبدو الصورة مركّبة قليلاً. تقارير عن سوق العروض الحية تتحدث عن “مفارقة” لافتة: مهرجانات ضخمة في الصيف يملؤها الجمهور، مقابل جولات فنية متوسطة تواجه صعوبات اقتصادية وتنظيمية، ما يجعل المشهد الفرنسي أقرب إلى حقل تجارب لإيجاد توازن جديد بين المهرجانات الجماهيرية والعروض الصغيرة في القاعات المستقلة.
مع ذلك، لا تزال باريس تستعد لليلة رأس سنة موسيقية صارخة عند الشانزليزيه، حيث تمتد العروض الحية والدي جي والكاراوكي العملاق على طول الشارع، في احتفال يدمج السكان والسياح في كرنفال صوتي واحد. وعلى الضفة الأخرى، يعلن مهرجان “وي لوف غرين” عن برمجة استثنائية لذكرى تأسيسه الخامسة عشرة، مع عودة فرقة “غوريلاز” إلى منصة العناوين الكبرى وظهور أسماء مثل The xx بعد غياب طويل عن المسارح الفرنسية، في إشارة إلى أن باريس لا تزال تحاول تثبيت موقعها كمركز مهرجاني أوروبي مهم.
ومن المشاهد اللافتة أيضاً في فرنسا وأوروبا، حفلات التضامن مع فلسطين التي ملأت قاعات باريس ولندن مؤخراً، حيث اجتمع فنانون من مشارب موسيقية مختلفة، من الروك إلى الراب مروراً بالموسيقى الإلكترونية، لجمع التبرعات والتعبير عن موقف سياسي وإنساني في آن واحد. الحفلات بدت كأنها تذكير بأن الأغنية ليست مجرد منتج ترفيهي، بل يمكن أن تكون أحياناً رسالة وصرخة وذاكرة جماعية في الوقت نفسه.
في الولايات المتحدة، تتحرك الأخبار على مستوى آخر: مستوى الأرقام واللوائح الضخمة. قوائم “بيلبورد” السنوية التي صدرت حديثاً تكشف عن حضور قوي غير مسبوق لمسلسلات وأفلام الأنيميشن والخيال في تشكيل الذوق الموسيقي، إذ يتصدر الساونتراك الخاص بفيلم “KPop Demon Hunters” عدداً من القوائم، وتتحول الأغاني الصادرة عن فرق كورية افتراضية مرتبطة بالفيلم إلى ظاهرة استماع واسعة تتجاوز جمهور الكي–بوب التقليدي.
في المقابل، تظهر ملامح “ثورة صامتة” تقودها الموسيقى المنتَجة بالذكاء الاصطناعي؛ فقد تمكّنت أغنية لكائن موسيقي افتراضي من تصدر إحدى لوائح بيع الأغاني الرقمية في الكانتري، ما أشعل نقاشاً حاداً في الأوساط الفنية حول معنى “الفنان” وحدود الإبداع البشري في عصر يمكن فيه لخوارزمية أن تنتج أغنية ناجحة. شركات الإنتاج التي كانت قبل أشهر ترفع دعاوى ضد منصات الموسيقى المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بدأت تميل إلى عقد شراكات جديدة تقوم على تقاسم الأرباح، في إقرار ضمني بأن “المنافس الجديد” لن يرحل، وأن الصناعة مضطرة للتعايش معه وإعادة تعريف مفاهيم الأصالة والحقوق.
كل هذه التفاصيل المتناثرة، من منصة صغيرة في فاس إلى ساحات نيويورك ولاس فيغاس، ترسم صورة عالم موسيقي يتحرك في أكثر من اتجاه في الوقت نفسه. هناك من يدافع عن الجذور ويعيد قراءة أم كلثوم في فيلم حديث، وهناك من يراهن على موجة أفروبِيت أو مهرجان صحراوي في المغرب، وهناك من يكتب أغنية عبر خوارزمية لا تنام. وبين هذا وذاك، يبقى المستمع العادي هو “الحَكَم” النهائي، يحمل هاتفه الذكي في جيبه، يقفز بين playlists تمتد من الراي المغربي إلى التراب الفرنسي والهيب هوب الأمريكي والأما بيانو الجنوب إفريقي، غير مكترث كثيراً بالتعريفات القديمة لما هو “رفيع” وما هو “هابط”، بقدر ما يهمه أن يجد الأغنية التي تلتقط مزاج لحظته، وتمنحه وهلة قصيرة من الحرية في عالم يزداد ضجيجاً يوماً بعد يوم.







0 التعليقات:
إرسال تعليق