الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 15، 2025

حين تُفكِّر الحواس بدل العقل: حكاية التجريبية البريطانية: ترجمة عبده حقي

 


لم تولد الفلسفة الحديثة في أبراجٍ عاجية، ولا خرجت دائمًا من تأملات ذهنية مجردة كما قد يوحي تاريخها المدرسي. في بريطانيا، وعلى امتداد القرنين السابع عشر والثامن عشر، اتخذ التفكير الفلسفي مسارًا مختلفًا، أقل ادعاءً، وأكثر التصاقًا بالحياة اليومية. هناك، لم يُسأل العقل عمّا يحتويه في ذاته، بل عما يلتقطه من العالم. هكذا تشكّلت التجريبية البريطانية، بوصفها فلسفة تشكّ في الفطرة، وتثق في الحواس، وتؤمن بأن المعرفة لا تُولد مكتملة، بل تُبنى ببطء، تجربة بعد أخرى.

كانت بريطانيا، في تلك المرحلة، تعيش تحولات عميقة: صعود العلم التجريبي، توسّع التجارة، احتكاك الثقافات، وتراجع سلطة الكنيسة المطلقة على المعرفة. في هذا السياق، بدا من الطبيعي أن تتصدّع الفكرة القديمة القائلة بأن العقل يحمل في داخله حقائق أزلية جاهزة. لم يعد السؤال: ما الذي يجب أن نفكّر فيه؟ بل: كيف نعرف أصلًا؟

جون لوك كان أول من فتح هذا الباب على مصراعيه. في كتابه الشهير مقال في الفهم الإنساني، أعلن قطيعة هادئة ولكن حاسمة مع فكرة “الأفكار الفطرية”. العقل، عند لوك، لا يولد ممتلئًا، بل صفحة بيضاء، لا يكتب فيها شيء إلا عبر التجربة. الحواس تمدّنا بالمواد الخام للمعرفة، والعقل لا يفعل أكثر من ترتيبها، ومقارنتها، وربطها. لم يكن هذا مجرد رأي فلسفي، بل موقف ثقافي وأخلاقي أيضًا: الإنسان ليس سجين قدر معرفي مسبق، بل كائن قابل للتعلّم، والتشكّل، والتغيّر.

غير أن التجريبية لم تتوقف عند هذا الحد المتفائل. جورج بيركلي، الفيلسوف الإيرلندي الذي كتب بالإنجليزية وفكّر داخل هذا التقليد، دفع الفكرة خطوة أبعد، وربما أخطر. إذا كانت معرفتنا كلها قائمة على الإدراك الحسي، فهل يمكن أن نؤكد وجود الأشياء خارج هذا الإدراك؟ عبارته الشهيرة “الوجود هو أن يُدرَك” لم تكن مجرد لعبة لغوية، بل محاولة جذرية لإعادة تعريف الواقع نفسه. العالم، في نظر بيركلي، لا يُفهم بوصفه مادة صماء مستقلة عن وعينا، بل شبكة من الإدراكات المتواصلة. ورغم ما في هذا الموقف من تطرف ظاهري، فإنه كان وفيًّا للروح التجريبية: لا وجود لما لا يمكن اختباره أو إدراكه.

ثم جاء ديفيد هيوم، ليقلب الطاولة بهدوء اسكتلندي بارد. هيوم لم يكتفِ بتأكيد دور التجربة، بل بدأ في تفكيك أكثر المفاهيم رسوخًا في الفكر الإنساني: السببية، والذات، واليقين. نحن نعتقد، بحكم العادة، أن السبب يؤدي دائمًا إلى النتيجة، لكن التجربة لا تعطينا هذا الضمان. ما نراه هو تعاقب منتظم، لا رابطة ضرورية. حتى “الأنا” التي نعتقد أنها ثابتة، ليست عند هيوم سوى حزمة من الانطباعات المتغيّرة. هنا بلغت التجريبية ذروتها، لكنها لامست في الوقت ذاته حافة الشك العميق.

ومع ذلك، لم تكن التجريبية البريطانية فلسفة هدم فقط. قيمتها الكبرى أنها حرّرت التفكير من الوهم المريح لليقين المطلق، وفتحت الباب أمام معرفة متواضعة، لكنها أكثر صدقًا. معرفة تدرك حدودها، وتعترف بأنها احتمالية، قابلة للتصحيح، ومفتوحة على المراجعة. وهذا بالضبط ما جعلها الخلفية الفلسفية الصامتة للعلم الحديث، وللفكر الديمقراطي، ولروح التسامح المعرفي.

اليوم، في زمن تتصارع فيه “الحقائق البديلة” وتُعاد فيه صياغة الواقع عبر الشاشات والخوارزميات، تبدو التجريبية البريطانية أكثر راهنية مما نظن. فهي تذكّرنا بأن المعرفة لا تُؤخذ بالتلقين، ولا تُبنى بالشعارات، بل تُختبر، وتُسائل، وتُقاس على الواقع. وهي، قبل ذلك كله، دعوة دائمة إلى الشك المسؤول، لا بوصفه نفيًا للحقيقة، بل طريقًا شاقًا نحوها.

0 التعليقات: