الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 15، 2015

الكاتب

الكاتب
في تلك اللحظة المتؤخرة .. في ليلة من ليالي السبعينات .. انتهى من كتابة النص ... أرسل زفرة قوية اهتزت لها الأوراق أمامه على المنضدة  ثم استرخى على مسند الكرسي... أشعل سيجارته العشرين الأخيرة وطفق يتأمل تلك
الكلمات .. جرات التشطيب ..الهوامش ..الدوائر..البياضات الكثيرة...
شعربنشوة جارفة حين لمح على المنضدة أصيص الزهور وقد اشرأبت بينها زهرة بلون متفرد رغم أنها جميعا  من نفس الأصيص ونفس التربة .
إنه الآن يمعن النظرفي مفاتنها الداخلية الآسرة مثلما تكشف له امرأة عن أزرار منامتها الوردية الناعمة في ليلة شتوية...
ضغط على عقب السيجارة العشرين والأخيرة في المرمدة التي كانت تطفح بأعقاب أخرى وكانت تنبعث منها رائحة كريهة .. إن خليلته تمقت تلك الرائحة التي تظل عالقة بمنامته وتفوح من فمه بقوة حين يستلقي بجانبها على السرير ... وكثيرا ما حاول الإمساك عن التدخين ، إلا أن النص الماكر يستدرجه لذلك في دهاء ومن حيث لايدري ... سيظل إذن يدخن ويدخن ويدخن  مادام لهذه البلية علاقتها الغامضة والمتواطئة مع التفكيروالكتابة...
انزلق بتوأدة ..السريردافئ.. شعرمرة أخرى بنشوة النص وتفتح الزهرة وعطرالخليلة .. ضغط على زرالنور الذي يشبه إجاصة متدلية فوق رأسيهما ..أغمض عينيه وحاول أن ينام لكن صور ولحظات النص تعبر أمامه مثل .. مثل .. مثل .. قطعان من السحب الحثيثة .. أوربما مثل شيئ لم يستطع تحديده في الظلام ..آه ربما أخيرا مثل دوائرمائية تكبرشيئا فشيئا لتتلاشى إلى حيث لايدري...
وكثيرا ما كان هذا القاص يحلم بالنص/الحدث .... نص يتصدرالعناوين الرئيسية في نشرات الأخباروالمجلات والجرائد.. نص يزعزع النظريات النقدية والمفاهيم والمصطلحات... لذلك فهو كان يبيت الليالي مسهدا داخل (مختبرالسرديات) الذي هوعبارة عن غرفة ضيقة منزوية بجوارالمطبخ ، تتكدس فيها أكوام من الكتب والمجلات والقصاصات والمسودات المدعوكة هنا وهناك قرب البالوعة ... وكالعادة كل صباح كان يستفيق يشرب قهوته على الريق وأحيانا مع كسرة خبزوزيتون ويشبع ... هكذا كان يقول لخليلته أنه شبع ، المهم هو أن يشبع بالكتابة ... ثم يدخن سيجارته الأولى ، بعد ذلك يصعد إلى السطح ، يعيد قراءة النص تحت أشعة الشمس الخريفية .. يتأمل السماء وسحبها التي ماتزال تراوح مكانها ... وكثيرا ما كان ينزل خائبا ليمزق أويحرق ذلك النص ويلقي به تحت الصنبورحتى يتحلل حبره ثم يدخل إلى الدش البارد في صمت مريب .. يفكر في نص آخر ويهمس في نفسه : ( ما جدوى كتابة نص جميل إذا عجزعن السيرفي الشارع وحده ليعانق الأصدقاء واحدا واحدا .. يركب الأوطوبيس ويتجول في الحديقة العمومية ويجلس في مقهى ويستحم في المسبح العام بدون تبان ... وعلاش لا...
في هذا الصباح ، استفاق على الساعة العاشرة وهو قد اعتاد أن يستفيق في مثل هذا الوقت أويستغرق في نومه إلى ما بعد الظهيرة ، لافرق عنده في ذلك بين فصل وفصل فجميع فصول الله تتشابه مادام في رأيه أن النص المشتهى لم ينزل من سمائه بعد ، لامن سماء التجريب السابعة ولامن سماء السريالية السادسة ولا من سماء الفانتاستيك الخامسة ولا من سماء الواقعية الرابعة ولا من هذه ولامن تلك ... وهوحتما لن ينزل مادام أن للغة قرارها الأخير وقاموسها المتمنع الذي نصبت عليه المناهج النقدية برجا للمراقبة ...
هكذا تعود أن يحسم الأمرلكنها لعنة الكتابة...
واليوم ليس ككل الأيام.. يوم من أعوام التسعينات ... دس النص في جيب معطفه الرمادي .. رنا إلى المرآة .. كان يبدو مثل دب هرم عليل .. نص آخر يجرب حظه في هذا اليوم الرصاصي البارد والذي يندر برياح عاصفة ... كان الكاتب يمشي مزهوا بنصه النائم في عمق جيبه الدافئ بين المنديل الأحمروعلبتي الثقاب والسجائر. في منعطف الشارع العريض اصطدم فجأة بجسد بدين يحمل كومبيوتروجريدة بالألوان... لقد ألف أن يرى هذا الوجه على أعمدة الصحف وشاشات التلفاز... إنه الشاعروالروائي والقاص والمسرحي والفنان التشكيلي ورئيس جمعية رياضية وعضو اتحاد كتاب جزرالقمر.. و.. و... وهو يفكرفي انشاء مقاولة PME  للقصة القصيرة ومقاولة PMI للرواية والإستثمارفي الفنون التشكيلية ... كل هذا طبعا في إطار لبيرالية الفعل الثقافي ( وعلاش لا !!) فنحن نعيش في نظام عالمي جديد وطوفان العولمة الجارف قادم لاريب فيها...
إعتذر الكاتب لصاحبه بعد أن التقط نظارته التي وقعت على الأرض بفعل الإصطدام ومسحها بكم معطفه السبعيني الذي يشبه معطف ( كوكول) ، معتذرا ثانية وثالثة ومتأسفا كثيرا .. كثيرا .. عما حصل بالصدفة وأردف أن منعطفات المدينة كلها مفخخة ولحسن حظه أنه غالبا ما يصطدم بكتاب مثله ، ولذلك فهو قد حمد الله على أن كاتب اليوم هو السي (الخمارالقاشوري) سيد السرديات وقاهرالقواميس ... فما أجمل إذن هذا الإصطدام وما ألطفه .. إصطدام نص بنص ...
ولكي يكفر الكاتب عما حدث دعا السي ( الخمار القاشوري ) إلى احتساء فنجان قهوة على حسابه . غير أن هذا الأخيراعتذربلطف بدعوى أن مقهى (النهضة) أصبحت في السنين الأخيرة تعج بكتاب مغمورين ، جسورين يضايقونه بضوضاء أسئلتهم السطحية حول روايته الأخير( الكنز)
في حانة ما جلسا وجها لوجه .. وما كادا يستويان في جلستيهما حتى وضع النادل الأكرش على الطاولة قنينتي بيرة وحيى (الخمار القاشوري) بحرارة فائقة .. اعتذرالكاتب عن شرب البيرة وفضل كأس قهوة معصرة فيما احتفظ (الخمارالقاشوري) بالقنينتين معا ...
ظلا صامتين .. نظرات ملغزة .. متقاطعة في أحيان كثيرة ...
أخرج (الخمارالقاشوري) غليونه العاجي وحشاه بحفنة من التبغ الهولندي الرفيع فيما سحب الكاتب النص من جيبه وقدمه قائلا : ( أرجو منك أن تقرأه وتعطيني رأيك ).
شرع (الخمارالقاشوري) يمج غليونه .. يعب البيرة ويتأمل النص .. يقطب حاجبيه تارة ويفرجهما أخرى .. يهمس بكلمات مبهمة .. يتزحزح في مكانه إلى وضع أكثرراحة على ما يبدو، يعب البيرة بنشوة بالغة ... خمن الكاتب وقال في نفسه : يبدو أن النص المنتظر قد نزل أخيرا من سماء ما ، فهو يرى علامات نزوله على وجه المثقف (الخمارالقاشوري) . بعد لحظة إنتهى من قراءة النص وصفق فانتصب الكاتب كالمذعورواقفا احتراما له وقال بصوت مجهد:
ـــ عفوا ..عفوا فأنا مدين لاعترافك هذا وتصفيقاتك المنوهة... 
فرد (الخمارالقاشوري) بوجهه الغارق في دخان الغليون :
ـــ لم أنته بعد من قراءة نصك فأنا قد صفقت للنادل فحسب .
لم يرد الكاتب ، مكث منكمشا في معطفه السبعيني ينتظررأي ( الخمار القاشوري )  وبقي النص محاصرا بينهما وبين التصفيق والتصفيق والنادل يأتي بالعامرويمضي بالخاوي ، وفي لحظة ما دلف الكاتب المسكين إلى المرحاض وحين عاد وجد النادل الأكرش في انتظاره:
ـــ ادفع .
عبده حقي
                                                            

0 التعليقات: