الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، نوفمبر 06، 2023

نص سردي "زمن الأبجدية" عبده حقي


في زوايا الزمن المنسية، حيث تُنسج الذكريات ويحلق الخيال، اكتشفت عالمًا استثنائيًا كنت أنتمي إليه دائمًا. إنه عالم أثيري، مساحة خالدة حيث رقص كل حرف، كل كلمة، كل فاصلة ونقطة معًا لتشكل نسيج وجودي. هذا هو عصر الأبجدية، عالم تتشكل فيه الأفكار وتنبض فيه الأحلام بالحياة.

لا أزال أذكر أول اتصال مع هذه رموز الحروف السحرية، اللحظة التي كشفت لي فيها أسرار الكتابة. كنت طفلاً متعطشًا للمعرفة وللاكتشاف. كان كل حرف بمثابة بوابة لعالم جديد، ومفتاح لآفاق لا نهاية لها. كانت الأبجدية حليفتي، وصديقتي الصامتة، ودليلي في طقس تقلبات الخيال.

كانت الكلمات أقرب المقربين إلي، ترافقني في أفراحي وأحزاني. كانت أصداء روحي، وأجزاء من كياني، متناثرة في شرايين الخطوط المرسومة على الورق. في كل مرة كنت أقوم بتجميع هذه الحروف التي تبدو بسيطة، كنت أخلق أكوانًا بأكملها، وقصصًا تنبض بالحياة أمام دهشة عيني المبهورتين.

لقد تعلمت الإبحار في هذا المحيط اللامتناهي من الاحتمالات، والتلاعب بالحروف الساكنة والمتحركة والكلمات لتأليف مناظر طبيعية رائعة، وحبكات آسرة وقصائد جعلت رقصت القلوب.

لقد أصبحت الأبجدية أداتي، ولكنها أيضًا ملاذي. في بنيتها البسيطة والمعقدة بشكل لا نهائي، وجدت ملجأً، مكانًا حيث يمكن لأفكاري أن تزدهر بلا حدود. كانت الحروف الأساس الذي قامت عليه أحلامي، والأعمدة التي تدعم قصور أفكاري.

أتذكر بحنين الليالي الطويلة التي كنت فيها مفتونًا بسحر الكلمات، حيث فقدت نفسي في عوالم خلقت من الصفر. كان كل سطر كتبته بمثابة دعوة للسفر، وكل فقرة استكشافًا للروح الإنسانية، وكل صفحة مقلوبة تمثل خطوة أقرب إلى فهم الروح الإنسانية.

لم تكن الأبجدية مجرد وسيلة للتعبير. لقد كان أيضًا مرآة لنفسي الجوانية. كل اختيار للكلمة، وكل فاصلة موضوعة بدقة تعكس أعمق حالاتي المزاجية، وآمالي، ومخاوفي، وتطلعاتي. من خلال الأبجدية، كنت أكتشف وأعيد اكتشاف من أكون باستمرار، ومن يمكن أن أصبح.

مرت الفصول، وتطورت معها علاقتي بالأبجدية. ما كان في السابق افتتانًا طفوليًا أصبح شغفًا ملتهبًا، ثم رفيقًا مخلصًا طوال حياتي. أصبحت الرسائل أصدقاء أعزاء، وحلفاء في الأوقات المظلمة، ورفاق فرحين في الضحك.

واليوم، وأنا أتذكر هذا الارتباط الذي لا يتزعزع مع الأبجدية، أدرك مدى تأثيرها في رحلتي. كل كلمة كتبتها، كل قصة رويتها، كانت بمثابة حجر الزاوية في بناء هويتي. كانت الأبجدية أكثر من مجرد أداة اتصال؛ لقد كانت المحفز لإبداعي، وناقلة مشاعري، والحارس لأفكاري العميقة.

في زمن الأبجدية، وجدت جوهري، واستكشفت حدود مخيلتي، واحتضنت قوة الكلمات. لذلك في كل صفحة أقلبها، في كل جملة أقوم بصياغتها، أتذكر دائمًا ذلك الوقت عندما كانت الحروف أكثر من مجرد أحرف. لقد كانت مفتاح الكون اللامتناهي الذي يقيم بداخلي.

0 التعليقات: