الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أبريل 25، 2024

هل نخشى على مستقبل الرواية من خطر الذكاء الاصطناعي !؟ عبده حقي


لقد أثار اختراع الذكاء الاصطناعي عدة نقاشات حول قدرته على إحداث ثورة في جوانب مختلفة من حياة الإنسان، بما في ذلك مساراته وممارساته الإبداعية الأدبية. أحد الأسئلة التي تطرح في كثير من الأحيان هو ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يشكل تهديدا لمستقبل الرواية، باعتبارها شكلا من الأشكال المتجذرة بعمق في الخيال والأحاسيس البشرية. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يمتلك بالتأكيد القدرة على مساعدة المؤلفين في عملية الكتابة، فمن المهم أن ندرك أن كنه الإبداع الروائي يكمن في عناصره السيكولوجية والاجتماعية والسياسية التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي إنتاجها كتجربة غير مستنسخة عن تجارب وبيانات سابقة.

في مركزية الرواية يكمن العنصر البشري – تلك الشبكة المعقدة من العواطف والخبرات ووجهات النظر التي تشكل الحالة الإنسانية الخاصة. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل كميات هائلة من البيانات وإنشاء نصوص بناءً على أنماط سابقة ، فإنه يفتقر إلى الفهم الدقيق للعواطف والدوافع البشرية التي تعتبر ضرورية لإنشاء شخصيات مقنعة ويمكن الارتباط بسلوكياتها.

تمثل كل رواية انعكاسًا لصوت مؤلفها وأسلوبه ورؤيته المتفردة للوجود ، وهي عناصر شخصية للغاية ولا يمكن للذكاء الاصطناعي تكرارها. تتضمن عملية كتابة الرواية اتخاذ عدد لا يحصى من الاختيارات الإبداعية التي تنبع من خيال المؤلف ونظرته وموقفه من الوجود، وهو أمر لا يستطيع الذكاء الاصطناعي، بكل قوته الحسابية، فهمه بالكامل.

الجانب الآخر الحاسم في إنتاج العمل الروائي هو تعقيد بنيته السردية. غالبًا ما تتعامل الروايات مع مؤامرات معقدة وشخصيات متعددة الأبعاد واستكشافات موضوعية عميقة تتطلب فهمًا عميقًا للسلوك البشري والاجتماعي. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل البيانات واقتراح نقاط الحبكة، فإنه قد يواجه صعوبة في إنشاء روايات تلقى صدى نافذا لدى القراء على المستوى العاطفي.

علاوة على ذلك، فإن الروايات متجذرة بعمق في السياقات الثقافية والاجتماعية، وتعكس القيم والمعتقدات والنضالات في زمان ومكان معينين. وقد لا يتمكن الذكاء الاصطناعي، الذي يفتقر إلى الخبرات البشرية والفهم الثقافي، من التقاط هذه العناصر وتمثلها بشكل أصيل وعميق.

إن العلاقة بين القارئ والرواية هي علاقة فردية وشخصية للغاية، وغالبًا ما تنطوي على تفاعل عاطفي. وإذا كان المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي قد يكون بارعًا من الناحية الفنية، إلا أنه قد يفتقر إلى القدرة على إثارة استجابات عاطفية حقيقية من القراء.

كما أنه إذا كان الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على مساعدة المؤلفين في جوانب مختلفة من عملية الكتابة، فهذا يعني بوضوح أن فن الرواية كمسعى إبداعي إنساني لا خطر عليه في المستقبل. وبدلا من ذلك، يمكن النظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة تكمل الإبداع البشري وتعززه، بدلا من أن تحل محله.

ورغم أن الذكاء الاصطناعي مثير للإعجاب في قدرته على إنشاء نص أدبي استنادا إلى بيانات وخوارزميات موجودة سلفا، فإنه يفتقر بشكل أساسي إلى القدرة على التأصيل. على عكس المؤلفين الذين يستمدون من تجاربهم وعواطفهم وخيالاتهم لخلق أفكار جديدة ومبتكرة، فإن الذكاء الاصطناعي يقتصر على تجميع المعلومات التي تم تدريبه عليها.

أحد القيود المتميزة للذكاء الاصطناعي هو اعتماده على مجموعات البيانات الموجودة سابقا. فخلال إنشاء نص نثري، يقوم الذكاء الاصطناعي بتحليل الأنماط في البيانات التي تم تغذيتها، والتي يمكن أن تؤدي إلى اجترار الأفكار أو تكرار المفاهيم الموجودة بدلا من إنشاء نص جديد بكل المقاييس حيث يمكن أن يؤدي هذا الاعتماد على المعلومات الموجودة مسبقًا إلى نتاجات تفتقر إلى الأصالة وبدلاً من ذلك تحاكي أو تكرر ما تم التعرض له بالفعل في الماضي.

إن عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم السياق والمعنى بشكل حقيقي يمكن أن يؤدي إلى إنتاج نص مليء بالكليشيهات والتناقضات، أو حتى الانتحال غير المقصود. وإذا كان الذكاء الاصطناعي قادرا على تجميع الكلمات وتوليفة من العبارات التي تبدو متماسكة، فإنه غالبا ما يفتقر إلى الفهم الأعمق والحدس الذي يمتلكه المؤلفون ، مما يؤدي إلى محتوى لا يرقى إلى مستوى الإبداع الإنساني الحقيقي.

إن الخيال البشري هو ظاهرة متشابكة تستمد ملامحها من عدد لا يحصى من المؤثرات، بما في ذلك التجارب الشخصية والخلفية الثقافية والعمق العاطفي والإيديولوجي. من ناحية أخرى، يعمل الذكاء الاصطناعي ضمن حدود خوارزمياته ومجموعات البيانات المبرمجة، والتي تحد بطبيعتها من قدرته على توليد أفكار أو مفاهيم أصلية وجديدا حقًا.

قد يكون قادرًا على تقليد الكتابة البشرية إلى حد ما، إلا أنه في نهاية المطاف لا يرقى إلى تكرار عمق وثراء التخييل البشري. ويكمن جوهر الإبداع في القدرة على التحرر من القيود القائمة والثابتة وصياغة مسارات جديدة للفكر والتعابير ــ وهو الإنجاز الذي لم يحققه الذكاء الاصطناعي، بكل براعته الحسابية، حتى الآن.

وعلى الرغم من أنه يمتلك قدرات رائعة في تحليل بنية النص وأسلوبه، فإنه لا يتمكن من فهم العمق العاطفي للرواية وأهميتها. إنه يستطيع تحليل الكلمات الموجودة على الصفحة وتحديد الأنماط النحوية، لكنه يفتقر إلى القدرة على الفهم الحقيقي للموضوعات والرسائل والعواطف الدقيقة التي تكمن بين سطور العمل الأدبي.

إن فهم الذكاء الاصطناعي للغة هو فهم حوسبي بحت، وخالي من الفسيفساء الغني للمشاعر والأحاسيس الإنسانية. على الرغم من أنه قد يكون بارعا في إنشاء نص أدبي يحاكي أنماط الكلام البشري، إلا أنه يفتقر إلى القدرة على التواصل الحقيقي أو فهم الفروق الدقيقة العاطفية المتأصلة في التواصل البشري.

إن تقدير الأدب يتجاوز مجرد الكفاءة اللغوية؛ إنه ينطوي على تفاعل عميق مع الأفكار والموضوعات والإشكالات الأخلاقية المطروحة في الرواية. ويفتقر الذكاء الاصطناعي، المحدود بخوارزمياته ومجموعات البيانات المبرمجة، إلى القدرات المعرفية اللازمة للانخراط في مثل هذه الأشكال المعقدة من التفسير والتحليل.

قد يتفوق الذكاء الاصطناعي في بعض المهام المتعلقة بمعالجة اللغة، لكنه يظل خاليًا بشكل أساسي من الحس والحدس العاطفي. في حين يكمن جوهر الأدب في قدرته على إثارة التعاطف، والتأمل، وإلهام استجابات عاطفية عميقة ــ وهي الصفات التي هي إنسانية بطبيعتها وبعيدة عن آلية الذكاء الاصطناعي.

أيضا إنه يفتقر إلى الحكم الأخلاقي وحسن التمييز المتأصل في عملية صنع القرار البشري. فعندما يتعلق الأمر بالروايات، قد يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحليل بنية النص وأنماط اللغة، لكنه يعجز لامحالة عن تقييم الآثار الأخلاقية والاجتماعية والثقافية الأعمق للعمل الأدبي.

على عكس البشر الذين يمتلكون حسًا أخلاقيًا تشكله الأعراف المجتمعية والقيم الشخصية والسياق الثقافي، يعمل الذكاء الاصطناعي فقط بناءً على الخوارزميات ومدخلات البيانات. ونتيجة لذلك، لا يمكنه تمييز الآثار الأخلاقية للموضوعات أو الشخصيات أو الاختيارات السردية داخل الرواية.

إن خلق القيم هو مسعى إنساني بطبيعته ينبع من الفهم العميق للمبادئ الأخلاقية والبحث الفلسفي. إن الذكاء الاصطناعي، المقيد ببرمجته وافتقاره إلى الوعي الإنساني، غير قادر على الانخراط في التفكير الاستبطاني والأخلاقي اللازمين لخلق منظومة من القيم.

كما أن تقييم الأبعاد الأخلاقية والمعنوية للرواية يتطلب التعاطف الإنساني، والتفكير النقدي، والفهم العميق لتعقيدات التجربة الإنسانية ــ وهي الصفات التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها ولا تستطيع خوارزمياته تحقيقها.

في الواقع، في نظرنا لا يشكل الذكاء الاصطناعي تهديدًا، بل يمكن اعتباره حليفا بل مساعدا للكاتب في عالم الإبداع الجديد حيث تمتد قدراته وإمكاناته إلى ما هو أبعد من مجرد إنشاء النص، حيث يقدم عددًا كبيرًا من الأدوات المساعدة للمؤلفين طوال مخاض العملية الإبداعية إذ يمكنه تبسيط جوانب مختلفة من إنتاج الرواية، من التحرير والتدقيق اللغوي إلى التنسيق والتسويق. ومن خلال قدرته على تحليل النص بحثًا عن الأخطاء النحوية والتناقضات والمحسنات الأسلوبية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد المؤلفين على تحسين مسوداتهم لتلبية المعايير المهنية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للخوارزميات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أن تساعد في تنسيق المخطوطات للنشر عبر منصات مختلفة، مما يوفر للمؤلفين وقتًا وجهدًا ثمينين.

فضلا عن ذلك، يمكنه أن يكون بمثابة مصدر للإلهام والتحفيز الإبداعي. من خلال توليد الأسئلة والاقتراحات والتعليقات، كما يمكنه أن يتحدى المؤلفين لاستكشاف اتجاهات سردية جديدة، أو تطوير شخصيات أكثر ثراء، أو التعمق في الاستكشاف الموضوعي. ومن خلال تحليل الأعمال والاتجاهات الأدبية الحالية، يمكن للذكاء الاصطناعي أيضًا تقديم رؤى ووجهات نظرقيمة حول اختيارات جمهور القراء ومتطلبات السوق، وتوجيه المؤلفين في صياغة الروايات التي تلقى أصداء لدى المتلقين.

أيضا يمكن أن يعمل كشريك للكاتب ، وليس منافسًا للمؤلفين في مساراتهم الإبداعية. ومن خلال الاستفادة من قدراته الحسابية وبراعته التحليلية، يمكن للمؤلفين تعزيز دربتهم وملكاتهم وتحقيق رؤاهم الإبداعية . ومع ذلك، فإن جوهر الرواية كشكل من أشكال الفن الإنساني يظل بمنأى عن الذكاء الاصطناعي، ويرتكز على التفاعل العميق بين الإبداع والعاطفة والأخلاق التي تحدد التجربة الإنسانية.

في الختام، إذا كان الذكاء الاصطناعي  يقدم أدوات مساعدة قيمة للمؤلفين في إنشاء أعمالهم الروائية ، إلا أنه لا يشكل تهديدًا لجوهر وفن الرواية كشكل أدبي فريد من نوعه حيث يمكن لقدرات الذكاء الاصطناعي من تحرير وتنسيق وتوفير مداخل الإلهام الإبداعي وأن تدعم عملية كتابة الرواية، لكنه لا يستطيع أن يحل محل العناصر الأساسية للإبداع البشري التي تحدد ملامح الأدب العظيم كما ورثناه عن غارسيا ماركيز ومارسيل بروست وتولستوي ونجيب محفوظ ومحمد شكري ..إلخ.

إن الرواية هي تعبير شخصي عميق عن التجربة الإنسانية، التي يشكلها خيال المؤلف ومنظوره للوجود. قد يساعد الذكاء الاصطناعي في العديد من المهام المرتبطة بإبداع الرواية، لكنه مما لاشك فيه يفتقر إلى القدرة على الأصالة والفهم العاطفي والحكم الأخلاقي التي تعد جزءًا لا يتجزأ من فن الكتابة الروائية.

إن قلب الرواية وروحها سيقيمان دائمًا وأبدا في العقل والروح البشرية ، متجاوزين قدرات الذكاء الاصطناعي. على هذا النحو، تظل الرواية شهادة على القوة الدائمة للإبداع والخيال البشري في مواجهة التقدم التكنولوجي.

 

0 التعليقات: