تشكل انتفاضات 1983–1984 إحدى اللحظات الهامة للغاية في تاريخ المغرب الاجتماعي-السياسي. فقد التقت فيها ثلاثة مسارات: أزمة مناخية طويلة عمّقت هشاشة العالم القروي والاقتصاد برمته، وبداية تنفيذ برامج التقويم الهيكلي بما حملته من إجراءات تقشفية وصدمات سعرية، ثم تَشكُّل كتلة احتجاجية جديدة قادها التلاميذ والطلبة وانضمّ إليها عمال وفئات هامشية في مدن الشمال والداخل وعلى رأسها الناظور ومراكش.
دخلت البلاد مطلع الثمانينيات
تحت وطأة موجات جفاف حادة ضربت الإنتاج الفلاحي ورفعت كلفة الأمن الغذائي عبر الواردات،
ما فاقم الفقر الريفي ودَفَع إلى هجرات داخلية ضغطت على أسواق الشغل الحضرية والخدمات
الأساسية. في هذا السياق أطلقت الحكومة برنامجاً واسعاً للتثبيت والتقويم بدعم من المؤسسات
المالية الدولية، تضمن تحريراً للأسعار، وخفضاً للإنفاق العمومي، وتقييداً لنمو كتلة
الأجور، وتخفيضات في دعم سلع أساسية، وتخفيضاً تدريجياً لقيمة الدرهم. هذه الحزمة نقلت
الضغوط الماكرو-اقتصادية سريعاً إلى معيش الناس.
في الناظور، تراكمت
عوامل محلية فوق العوامل الوطنية: هشاشة «الاقتصاد الحدودي» المرتبط بمليلية، وتضرر
صغار التجار من إجراءات ورسوم جديدة أُضيفت في النصف الثاني من 1983، ثم توترات مدرسية
حول رسوم وشروط امتحانات وشهادات نهاية الدراسة. ومع نهاية دجنبر من العام نفسه رُفعت
أسعار مواد أساسية كالزيت والدقيق والسكر والزبدة، فصار الضغط ملموساً في ميزانيات
الأسر. هذه العناصر مجتمعة جعلت الشريط الشمالي –وخاصة الناظور– أرضاً خصبة لبدء الاحتجاج.
اندلعت أولى المسيرات
التلاميذية والطلابية في الناظور يومي 17–19 يناير 1984، وتوسعت بسرعة إلى الحسيمة
وتطوان وكسّار الكَبّير، كما شهدت مراكش موجة احتجاج موازية ذات طابع اجتماعي واضح،
قبل أن تمتد الدعوات إلى مدن أخرى. تميزت دورة الاحتجاج هذه عن دورة 1981 (الدار البيضاء)
بكونها أقل نقابية وأكثر شبابية/مدرسية في الانطلاق، ثم التحمت بها فئات من العاطلين
وصغار الكَسَبة. وفي الناظور تحديداً، سُجل انتشارٌ لقوات الجيش والدرك وفرضُ حظر فعلي
للتجوال في بعض الأحياء.
على الأرض، تدرجت الأشكال
من مسيرات وتجمّعات إلى إضرابات محدودة واحتكاكات متقطعة مع قوات الأمن. رفع المحتجون
مطالب معيشية مباشرة (تراجع الأسعار، إلغاء الرسوم المدرسية)، ثم سرعان ما اتسع الخطاب
ليشمل تنديداً بالهشاشة البنيوية للتعليم والتشغيل والخدمات. في الشمال، امتزج الاجتماعي
بالرمزي بفعل ذاكرة تهميشٍ تاريخي، وزادت القطيعة الوجدانية بين المركز والأطراف حدةً.
جاء الردّ سريعاً ومزدوج
المسار: انتشار أمني-عسكري كثيف واعتقالات واسعة، وفي المقابل خطاب ملكي مساء 22 يناير
تضمن تراجعاً عن الزيادات في أسعار السلع الأساسية كمحاولة لتنفيس الاحتقان. هذا «التراجع
التكتيكي» أنهى الموجة العاجلة، لكنه لم يُعدّل البنية الاقتصادية للتقويم الهيكلي
التي واصلت مسارها خلال بقية الثمانينيات. الصحافة الدولية وثّقت تسيير الدبابات في
شوارع الناظور وإعلان إلغاء الزيادات في تلك الأيام.
تفاوتت الحصائل المُعلنة:
أعلنت السلطات سقوط 29 قتيلاً و114 جريحاً على الصعيد الوطني، بينما قدّرت تغطيات صحفية
ومستقلة العدد بأكثر من ذلك بكثير. في حالة الناظور وحدها، تراوحت التقديرات بين نحو
20 و60 ضحية، فيما قدّرت هيئة الإنصاف والمصالحة لاحقاً عدد ضحايا الإقليم بـ17 شخصاً.
هذا التباين نفسه جزء من ذاكرة النزاع حول الرواية الرسمية لسنوات الرصاص.
تكشف جغرافية 1984
انتقال «مسرح الاحتجاج» من العاصمة الاقتصادية (1981) إلى مدن شمالية وداخلية أصغر
نسبياً. هذا التحول يوافق ما وصفته الأدبيات لاحقاً بـ«ثورة المدن الصغرى» حيث تؤدي
هشاشة الاندماج الترابي والاقتصادي، وضعف قنوات الوساطة المحلية، إلى خفض عتبة الانفجار
الاجتماعي.
بخلاف 1981 التي حملت
توقيعاً نقابياً واضحاً، انطلقت دورة 1984 من الفضاء المدرسي/الطلابي ثم انضمّت إليها
شرائح واسعة. عزز ذلك مساحتين: مركزية التعليم كعدسة يرى عبرها الشباب مسألة العدالة
الاجتماعية، وصعود فاعلين غير تقليديين خارج الإطارات النقابية الكلاسيكية.
أظهرت أحداث 1984 حدود
«الصدمة» الإصلاحية عندما لا تُرفق بشبكات حماية اجتماعية قوية وآليات تواصل تُقنع
المواطنين بعدالة توزيع الأعباء. فالتراجع عن الزيادات امتصّ الأزمة العاجلة لكنه لم
يُعالج المفارقة الأعمق: حاجة الاقتصاد إلى إعادة توازن ماكرو-اقتصادي، وحاجة المجتمع
إلى ضمانات معيشية وانتقال تدريجي لا يسحق الفئات الهشة.
يمكن قراءة 1984 كحلقة
في سلسلة أطول من «تفاوض اجتماعي» خشن بين الدولة والمجتمع حول حدود التقشف، ودور الدعم،
ووظيفة المدرسة وسوق الشغل. لاحقاً، ستتجه السياسات العمومية إلى مقاربات انتقائية
في الاستهداف الاجتماعي وتدبير المخاطر المناخية، وستظهر تدريجياً قنوات جديدة للوساطة
والاعتراف بذاكرة الانتهاكات. غير أن ذاكرة الشمال، ورمزية تلك الأيام، ظلتا تنبضان
في موجات لاحقة من التعبير الاجتماعي.
قائمة المراجع (مختارة)
David Seddon,
Winter of Discontent, MERIP 127, 1984.
World Bank,
Kingdom of Morocco – Country Assistance Review, 1997.
J. Kydd et al.,
Structural Adjustment and Moroccan Agriculture, OECD, 1992.
D. Verner et
al., Climate Variability, Drought and Drought Management in Morocco, World
Bank, 2018.
Á.
Suárez-Collado, “The 1984 uprising in Nador: more than just a bread revolt,”
REIM, 2023.
Institut Royal
des Études Stratégiques (IRES), Nouveaux mouvements sociaux et protestations au
Maroc.
The Washington
Post, “King Hassan Rejects Price Hikes, Tries To Quell Riots,” 23 Jan 1984.
UPI Archives, تقارير يناير 1984 عن المغرب.
Koenraad
Bogaert, The revolt of small towns…, Review of African Political Economy, 2015.
Zamane, “La
révolte des ‘awbaches’,” 2019.
روابط إلى مكتبات رقمية
ومصادر مفتوحة
OpenEdition
Books – Le Maroc actuel: Les révoltes urbaines
OpenEdition
Books – Les dilemmes de l’ajustemen
World Bank
Documents – Country Assistance Review (1997)
World Bank –
Climate Variability and Drought in Morocco
MERIP Archives –
Winter of Discontent (1984)
JSTOR – The
revolt of small towns… (Bogaert 2015)
REIM – The 1984
uprising in Nador
0 التعليقات:
إرسال تعليق