لم تكن حادثة فرار رئيس جهاز استخبارات الجزائر في بلد ذي وزن جيوسياسي أو إقليمي حالة معزولة في التاريخ. فقد عرف العالم سابقاً حالات مشابهة، كان أبرزها فرار الجنرال مانويل كريستوفر فيغيرا، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الفنزويلي المعروف بـ SEBIN، والذي تحول بعد خروجه من بلاده إلى شخصية مثيرة للجدل وورقة ضغط استخدمتها قوى دولية لإضعاف نظام الرئيس نيكولاس مادورو.
تولى فيغيرا رئاسة
الاستخبارات في أكتوبر 2018، وبقي في منصبه عاماً واحداً فقط. ومع اندلاع الاحتجاجات
الشعبية في أبريل 2019، المعروفة باسم "عملية الحرية"، انشق عن نظام مادورو
وانضم للمعارضة. لكن بعد فشل المحاولة الشعبية–العسكرية لإسقاط الرئيس، فرّ أولاً إلى
كولومبيا ثم إلى الولايات المتحدة في يونيو 2019.
هناك، تحوّل إلى أحد
أشرس خصوم مادورو، كاشفاً في مقابلات مع وسائل إعلام دولية، منها واشنطن بوست، تفاصيل
خطيرة عن فساد النظام، التعاون مع "حزب الله"، وتأثير كوبا في البنية الأمنية
الفنزويلية. هذه الشهادات جعلت منه مصدر إرباك كبير للنظام، وورقة رابحة بيد واشنطن
وحلفائها في صراعهم مع كراكاس.
اليوم، مع فرار الجنرال
الجزائري ناصر الجن، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات، تطفو إلى السطح مقارنات بين
تجربتي فنزويلا والجزائر. فكلا البلدين يعاني من بنية سياسية سلطوية، تعتمد اعتماداً
شبه كلي على الريع النفطي، وتفتقد لاقتصاد متنوع قادر على مواجهة الأزمات. كما أن القواسم
المشتركة بين فيغيرا وناصر الجن لافتة: مدة قصيرة على رأس الجهاز، علاقة متوترة مع
القيادة السياسية، ثم فرار دراماتيكي خارج البلاد.
السؤال المحوري هو:
هل يمكن أن يتحول ناصر الجن، كما فيغيرا، إلى "قنبلة سياسية موقوتة" ضد النظام
الجزائري، إذا ما قرر الحديث أو كشف أسرار الدولة أمام الإعلام الدولي أو العواصم الكبرى؟
رغم أوجه التشابه،
ثمة اختلافات أساسية. ففنزويلا دخلت منذ سنوات في أزمة اقتصادية خانقة، مع تضخم مفرط
وانهيار اجتماعي، زادها عزلة دولية بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية. أما الجزائر،
فرغم أزماتها البنيوية، لم تصل بعد إلى مستوى الانهيار الاقتصادي الفنزويلي، كما أنها
لا تواجه عزلة خارجية أو عقوبات غربية قاسية.
ومع ذلك، فإن استمرار
الاعتماد المفرط على عائدات النفط والغاز، وضعف التصنيع الوطني، قد يجعلها عرضة لمسار
مشابه إذا لم تُبادر إلى إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية.
لا يشبه هروب رئيس
جهاز استخبارات فرار مسؤول عسكري عادي. فمديرو الاستخبارات هم "صناديق سوداء"
تحتوي على أسرار الدولة، من شبكات النفوذ الداخلية إلى العلاقات مع القوى الأجنبية،
مروراً بملفات الفساد والاختراقات الأمنية. لذلك، يصبحون بعد الفرار "أسلحة استراتيجية"
بيد الدول المستضيفة، تُستعمل للضغط أو لزعزعة استقرار الأنظمة الأصلية.
هذا ما حدث في فنزويلا
حين استغلت واشنطن إفادات فيغيرا لإحراج نظام مادورو، وقد يتكرر في حالة الجزائر إذا
ما تحركت قوى دولية لاستثمار وضع ناصر الجن.
التاريخ يبين أن فرار
قادة الاستخبارات ليس حدثاً عادياً، بل مؤشراً على هشاشة البنية السياسية، وإشارة إلى
مخاطر مستقبلية قد تهدد استقرار الأنظمة. الجزائر ليست فنزويلا بعد، لكنها معرضة لمصير
مشابه إن لم تستخلص العبرة من التجربة الفنزويلية:
إصلاح الاقتصاد بعيداً
عن الريع النفطي، فتح المجال السياسي أمام مشاركة حقيقية، والتخفيف من قبضة الأجهزة
الأمنية على الحياة العامة. وإلا فإن "شبح فنزويلا" قد يلوح فوق الجزائر،
حيث يصبح كل انشقاق أمني بمثابة شرارة محتملة لزلزال سياسي يصعب احتواؤه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق