الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، أكتوبر 07، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (12) جاك دريدا وبرنار ستيغلر : عبده حقي


في منتصف التسعينيات، اجتمع فيلسوف التفكيك جاك دريدا وتلميذه المفكر التكنولوجي برنار ستيغلر أمام الكاميرا في حوارٍ فريد حمل عنوان "إيكوغرافيا التلفزيون" (1996)، ليقدما قراءة فلسفية لجوهر الصورة في زمن الوسائط الجديدة. لم يكن اللقاء مجرد نقاش أكاديمي حول الإعلام، بل أشبه بتجربة بصرية – فكرية، حيث يتحول التلفزيون من أداة عرض إلى موضوع تفكير، ومن مرآة للواقع إلى آلية تنتج الواقع ذاته. في هذا الحوار المصوّر، يفتح الاثنان أسئلة شائكة حول الذاكرة، الزمن، التقنية، والسياسة، واضعين المشاهد أمام مسؤولية جديدة: التفكير في الصورة التي تفكر فينا.

يشكل "إيكوغرافيا التلفزيون" نقطة التقاء بين فلسفة التفكيك ومفهوم التقنية بوصفها امتدادًا للذاكرة الإنسانية. فبرنار ستيغلر، الذي كان في تلك المرحلة يطور نظريته حول “الفارماكون (pharmakon) التقني – أي التقنية كدواء وسم في الوقت ذاته – وجد في دريدا محاورًا مثالياً لتفكيك البنية الميتافيزيقية التي تُخفيها الصورة التلفزيونية خلف سطوعها.

ينطلق دريدا من فكرة أن كل وسيلة إعلامية تحمل في داخلها تصورًا للزمن. فالتلفزيون لا يعرض "الآن" كما يوهمنا، بل يصنع "الآن" ويعيد إنتاجه. البثّ المباشر ليس بريئًا؛ إنه هندسة للزمن الجماعي، تُملي على المشاهدين إيقاعًا محددًا للتجربة والتلقي. هنا يلتقي دريدا مع ستيغلر في القول إن الزمن المعاش لم يعد ملكًا للوعي الفردي، بل أصبح يُصنع في مصانع التقنية.

فالصورة التلفزيونية، بحسب دريدا، لا “تنقل” الحدث، بل “تحدثه performatively —  فهي تُنشئ واقعية جديدة، تُصبح فيها المشاهدة فعلًا سياسيًا بامتياز. لقد انتقلت الفلسفة من تحليل النصوص إلى تفكيك الصور، من “ميتافيزيقا الكلمة” إلى “ميتافيزيقا البث.

في هذا السياق، يستعيد ستيغلر المفهوم الدريدي للفارماكون، الذي ورثه عن نص دريدا حول أفلاطون في "صيدلية أفلاطون". التقنية، كما يقول ستيغلر، هي دواء يحفظ الذاكرة، لكنها أيضًا سمّ يهددها بالنسيان. فالتلفزيون يسجل ويؤرشف، لكنه في الوقت نفسه يُنتج ذاكرة مصطنعة تُغطي على التجربة الحية.

هنا تتضح المفارقة الكبرى: إن الوسائط التي نبتكرها لحفظ ذاكرتنا تتحول إلى أدوات تسلبنا الذاكرة نفسها. وبذلك يصبح المشاهد، في نظر ستيغلر، كائنًا مؤتمتًا يعيش “تجربة بالنيابة”، حيث تُستبدل الذاكرة الجماعية بسرد إعلامي جاهز.

لا يتوقف الحوار عند الجانب التقني، بل يتوغّل في البنية السياسية للتمثيل. فدريدا يحذر من “السلطة اللامرئية” التي تمارسها الصورة، لأنها تبدو شفافة، موضوعية، بلا وساطة. لكن هذه الشفافية المزعومة هي أخطر أشكال الإيديولوجيا. فحين يُعرض حدث سياسي أو كارثة إنسانية عبر التلفزيون، ما يُنقل ليس الحقيقة بل “أثر الحقيقة — simulacrum كما سماه بودريار.

هنا يتقاطع فكر دريدا مع نقد ميشيل فوكو للسلطة والمعرفة، ومع تفكيك بودريار للواقع الافتراضي، ليؤكد أن الصورة ليست أداة للتنوير بل مجال للصراع. من يتحكم في البث يتحكم في الذاكرة، ومن يتحكم في الذاكرة يصوغ السياسة.

في نهاية الحوار، يقترح دريدا نوعًا من “الوعي الأخلاقي البصري”. فالمشاهد ليس مجرد متلقٍ سلبي، بل هو مسؤول عن النظر ذاته. فكل مشاهدة هي اختيار، وكل اختيار له تبعاته. أما ستيغلر فيدعو إلى “تربية تكنولوجية جديدة” تُعيد إلى الإنسان سلطته على أدواته، وتعلّمه كيف يحافظ على الذاكرة دون أن يستسلم لسطوة الآلة.

من هذا المنظور، تصبح إيكوغرافيا التلفزيون أكثر من مجرد حوار؛ إنها بيان فلسفي ضد نسيان الزمن وضد استبداد الصورة. فالتلفزيون، في رأيهما، ليس فقط شاشة للعرض، بل مختبر للحداثة، ومسرح تتواجه فيه الأخلاق والسياسة والتقنية في صراع غير متكافئ.

يمكن القول إن هذا العمل المشترك بين دريدا وستيغـلر يمثّل منعطفًا في التفكير الفلسفي المعاصر، حيث لم تعد التقنية مجرد أداة خارجية، بل جزءًا من البنية الأنطولوجية للإنسان ذاته. “إيكوغرافيا التلفزيون” تُعلن دخول الفلسفة عصر الصورة: عصرٍ يصبح فيه الوعي امتدادًا للأجهزة، والذاكرة مهددة بالتقنيات التي خلقتها.

في زمن الشاشات الذكية والذكاء الاصطناعي، يبدو هذا الحوار أكثر راهنية من أي وقت مضى. فالسؤال الذي طرحه دريدا منذ ثلاثة عقود لا يزال يُلاحقنا:

هل ما نراه هو العالم، أم صورة العالم التي صُنعت كي تُفكر عنا؟

0 التعليقات: