اللا-إنجابية أو Anti-Natalism هي موقفٌ أخلاقي وفلسفي يشكّك في قيمة أو حتى في شرعية جلب كائنات جديدة إلى الوجود. في جوهرها، ترى هذه الفلسفة أن فعل الإنجاب ذاته مشكلة أخلاقية، لأن الحياة بطبيعتها تنطوي على المعاناة. وإذا كانت الأنظمة الأخلاقية التقليدية تمجّد الولادة بوصفها خيراً، فإن اللا-إنجابية تقلب هذه البديهة رأساً على عقب: فأن تُولد ليس نعمةً، بل ضرراً.
يمكن تتبّع جذور اللا-إنجابية في التقاليد التشاؤمية القديمة. فقد عبّر فلاسفة الإغريق التراجيديون، مثل هيغسياس القوريني، عن شكّهم في أن الحياة تستحق أن تُعاش. لكنّ الفكرة تبلورت فلسفياً في العصر الحديث مع آرثر شوبنهاور الذي رأى أن الوجود ليس إلا دورة لا تنتهي من الرغبة والمعاناة. فـ«إرادة الحياة» عنده تسجن الإنسان في دوّامةٍ من النقص الدائم، وأن الفعل الأخلاقي الأسمى هو إنكار تلك الإرادة.
في القرن العشرين،
اتخذت اللا-إنجابية شكلاً أكثر نسقاً في أعمال الفيلسوف الجنوب إفريقي ديفيد بناتار،
ولا سيّما في كتابه «كان من الأفضل ألا نُولد أبداً: ضرر الوجود» (2006). يرى بناتار
أن الميلاد ضرر دائم، لأن الوجود ينطوي بالضرورة على الألم، في حين أن العدم يُعفي
الكائن من المعاناة دون أن يحرمه من اللذّة، إذ لا يوجد من يُحرم أصلاً. وهو يصوغ ما
يسمّيه «اللامتناظِرية الأخلاقية»:
وجود الألم شرّ.
غياب اللذّة ليس شرّاً،
إلا إذا كان هناك من يُحرم منها.
ومن هنا يستنتج أن
الامتناع عن خلق كائنات جديدة يمنع وقوع الضرر، بينما الإنجاب يضمن حدوثه.
2. الأبعاد النفسية والأخلاقية
تتحدّى اللا-إنجابية
أعمق المعتقدات الإنسانية والعاطفية. فالإنجاب لدى معظم الثقافات يُرمز به إلى الحبّ
والاستمرارية والأمل، ورفضه يبدو كرفضٍ للحياة ذاتها. غير أن اللا-إنجابيين يؤكدون
أن موقفهم لا يصدر عن كراهيةٍ للحياة بل عن تعاطفٍ مع الكائنات الحيّة: فإذا كان الهدف
الأخلاقي هو تقليل المعاناة، فإن أضمن سبيلٍ لذلك هو التوقف عن إنتاجها عبر الولادة.
ومن الناحية النفسية،
تُجبر هذه الفلسفة الإنسان على مواجهة معنى الوجود نفسه، إذ تهدم السرديات المريحة
حول القدر والتقدّم والخطة الإلهية، وتدعوه إلى الصدق الجذري حيال الموت والدمار البيئي
وسائر أوجه الألم الكوني.
أما أخلاقياً، فتتقاطع
اللا-إنجابية مع بعض تيارات البيئية الجذرية وحقوق الحيوان. فحججها البيئية تقول إن
تكاثر البشر بلا حدود يغذّي الكارثة المناخية، والانقراض الجماعي، واستعباد الكائنات
الأخرى. وبذلك يصبح الامتناع عن الإنجاب فعلاً من الرحمة تجاه الكوكب.
3. المواقف الدينية والثقافية المعارضة
تكاد جميع الديانات
الكبرى ترفض اللا-إنجابية. ففي المسيحية والإسلام واليهودية تُعدّ الحياة هبةً مقدسة
من الله، ورفضها يُعدّ رفضاً لمشيئته. حتى البوذية، التي تجعل من المعاناة جوهر الوجود،
لا تدعو إلى الامتناع عن الميلاد اختياراً، بل إلى بلوغ التنوير الذي يُحرّر النفس
من دورة الولادات والموت (السامسارا).
كذلك يعارضها الفكر
الإنساني الحديث الذي يرى أن على الرغم من المعاناة، فإن الإبداع والتضامن والحبّ يمنحون
الوجود معنى. فالتوقّف عن الإنجاب في نظره استسلام لليأس لا سعياً للإصلاح.
4. الراهنية المعاصرة
في السنوات الأخيرة،
عادت اللا-إنجابية إلى الواجهة عبر النقاشات الرقمية والحركات الشبابية التي يحرّكها
القلق البيئي والانهيار المناخي. من ذلك حركة “BirthStrike” التي أعلنتها نساء قرّرن عدم إنجاب الأطفال
احتجاجاً على مستقبل الأرض المهدَّد. كما ترتبط الفكرة بمسائل الحرية الفردية: هل للإنسان
واجب أخلاقي بالإنجاب، أم له الحق في الامتناع عنه؟
لقد جعلت أزمات المناخ
والحروب واللامساواة من هذه الفلسفة مرآةً قاسية للعصر. فهي تُجبرنا على مساءلة مسلّمات
«المستقبل» و«التقدّم» و«الخلود عبر النسل». وليست اللا-إنجابية، في جوهرها، دعوةً
إلى الموت، بل دعوةٌ إلى وعيٍ أخلاقي أعمق حول نوع الحياة التي نواصل استنساخها.
الخاتمة
تقف اللا-إنجابية كأحد
أكثر المواقف الأخلاقية إثارة للقلق والتفكير في الفلسفة الحديثة. فهي تطرح السؤال
الجوهري: هل من الأخلاقي أن نخلق كائناتٍ محكوم عليها بالمعاناة؟ سواء اتفقنا أو اختلفنا
مع هذا الموقف، فإنّه يجبرنا على مواجهة هشاشتنا الوجودية وتناقضاتنا الأخلاقية. وكما
كتب بناتار:
«إن أفضل حلّ للمأزق الإنساني هو ألا نخلقه
أصلاً.»







0 التعليقات:
إرسال تعليق