يُعَدّ كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" (1964) للفيلسوف الألماني الأمريكي هربرت ماركوز من أبرز النصوص الفلسفية والنقدية في القرن العشرين، حيث يُجسّد رؤية نقدية عميقة للمجتمع الصناعي المتقدّم، ويكشف عن تَحوُّل الإنسان الحديث إلى كائنٍ مفرغ من المعنى، منغمس في الاستهلاك، خاضع لأنماط التفكير والأداء التي تفرضها الآلة والسلطة التقنية. لقد كتب ماركوز هذا العمل في لحظةٍ مفصلية من التاريخ الغربي، حين كان العالم يعيش نشوة الازدهار الصناعي والتكنولوجي بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنّه رأى في هذا الازدهار نوعاً جديداً من العبودية الناعمة التي تُخدّر الوعي وتُشيّئ الإنسان.
يرى ماركوز أنّ المجتمعات
الرأسمالية، رغم مظهرها الديمقراطي والليبرالي، قد نجحت في ترويض الإنسان عبر آليات
خفية: الإشهار، الإعلام، الاستهلاك، والتقنية. فالإنسان في هذا النظام لم يعد يفكر
بحرية، بل أصبح أسيراً لأنماطٍ جاهزة من الرغبة والمعرفة والإنتاج. بهذا المعنى، يتحدث
ماركوز عن الوعي الزائف الذي يُغلف الواقع، ويمنع الأفراد من إدراك أن حريتهم مجرد
وهم. التقنية، التي يُفترض أن تحرر الإنسان، أصبحت أداة لإخضاعه، حيث يُقاس كل شيء
بمعيار الكفاءة والإنتاجية، لا بمعيار القيم أو المعنى.
العنوان ذاته يحمل
استعارة مركزية في فكر ماركوز: البعد الواحد هو اختزال الإنسان إلى وظيفة واحدة، إلى
بُعدٍ نفعي أو تقني، في مقابل غياب البعد النقدي أو الإبداعي أو الروحي. لقد فقد الإنسان
قدرته على الرفض، على قول "لا"، لأن النظام دمج المعارضة ضمن منطق السوق
ذاته. حتى الثورات الفكرية والفنية تحوّلت إلى سلعٍ تُباع وتُستهلك. في هذا السياق،
يصبح الإنسان الحديث مسطحاً فكرياً وعاطفياً، يعيش داخل دائرة مغلقة من الرغبات المبرمجة.
ينتقد ماركوز ما يسميه
بـ "التسامح القمعي"؛ أي ذلك الشكل من الحرية الذي يسمح للجميع بالتعبير
طالما لا يُهدد النظام القائم. هذه الحرية الشكلية تفرغ السياسة من مضمونها، وتجعل
من الديمقراطية واجهة لتكريس الهيمنة الرأسمالية. كما يرى أن العقل الأداتي، الذي يربط
التفكير بالمنفعة والجدوى، قد دمّر الفلسفة نفسها، وحوّلها إلى أداة تبرير للواقع بدلاً
من أن تكون أداة نقد له. في هذا المعنى، يتقاطع ماركوز مع مدرسة فرانكفورت (أدورنو،
هوركهايمر، بنجامين)، التي تشترك معه في نقد "العقل الأداتي" و"صناعة
الثقافة".
بعد ستين عاماً من
صدور الكتاب، ما يزال "الإنسان ذو البعد الواحد" نصاً مُلهماً لفهم الإنسان
الرقمي المعاصر. فكما حذّر ماركوز من سيطرة التقنية على الفكر، نعيش اليوم تحت هيمنة
خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي تُوجّه اختياراتنا وتُعيد تشكيل وعينا. شبكات التواصل
الاجتماعي، الإعلانات الموجّهة، والاقتصاد الرقمي، كلها تُعيد إنتاج الإنسان ذي البعد
الواحد ولكن في صورةٍ أكثر نعومة وخفاء. لقد تحوّل الاستهلاك إلى هوية، والمعرفة إلى
منتج سريع، والفكر إلى محتوى قابل للنقر والمشاركة.
يمكن القول إن ماركوز
قدّم في هذا الكتاب صرخة فلسفية ضد الاستلاب الحديث، ودعوة إلى استعادة الإنسان لبُعده
النقدي والخيالي. فالتحرر، في نظره، لا يكون فقط من الاستبداد السياسي، بل من الاستبداد
التكنولوجي والفكري الذي يسكن داخلنا. ومن هنا تكمن أهمية الكتاب اليوم في العالم العربي
أيضاً، حيث يُمكن أن يُسهم في نقد الاستهلاك المفرط، والتبعية التقنية، والنماذج الفكرية
المستوردة التي تفرغ الإنسان من حقيقته المتعددة الأبعاد.
«إنّ التحرر الحقيقي لا يكون في تغيير الآلات،
بل في تغيير الإنسان الذي يستخدمها» — هربرت ماركوز
المراجع المقترَحة
Herbert Marcuse,
One-Dimensional Man, Beacon Press, 1964.
Theodor Adorno
& Max Horkheimer, Dialectic of Enlightenment, 1947.
Andrew Feenberg,
Technology and the Politics of Knowledge, 1991.
علي حرب، نقد النص،
المركز الثقافي العربي، 1993.
عبد العزيز حمودة،
المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك، 1998.








0 التعليقات:
إرسال تعليق