الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، أكتوبر 30، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (18) ديكارت مع الذات : عبده حقي


في منتصف القرن السابع عشر، حين كانت أوروبا تغلي بين يقين اللاهوت القديم وارتباك العلم الناشئ، جلس الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في عزلةٍ فكرية عميقة، ليخوض حوارًا لم يكن بين شخصين بل بين الإنسان وذاته. في «تأملاته في الفلسفة الأولى» (1641)، ابتدع ديكارت تجربة ذهنية ثورية استحضر فيها "الشيطان الماكر" كمجاز للشك المطلق، ليهدم كل ما كان يعتبره يقينًا، ثم يعيد بناءه على أساسٍ جديد: الفكر نفسه. لم يكن هذا الشيطان خصمًا ميتافيزيقيًا، بل ضرورة منهجية لتطهير العقل من الأوهام. ومن هنا وُلدت الفلسفة الحديثة، وولد معها مفهوم "الأنا المفكّرة" كجوهر وجود الإنسان.

يُعدّ ديكارت المؤسس الأول للعقلانية الحديثة، غير أنّ أعظم إبداعاته لم تكن معادلة رياضية أو نظرية علمية، بل هذا الحوار الداخلي بين الشك واليقين، بين الذات وما يهدّدها من أوهام الإدراك. في «تأملاته في الفلسفة الأولى»، لم يخاطب ديكارت قرّاءه بقدر ما خاطب ذاته: "لقد قررتُ أن أشكّ في كل شيء." كان هذا القرار ثورة صامتة ضد قرونٍ من الفكر الأرسطي والديني الذي افترض أن الحقيقة تُسلَّم من الخارج، من سلطة أو تقليد أو إيمان. أمّا ديكارت، فقد عكس الاتجاه وجعل من الذات مصدرًا للحقيقة، فصار العقل الفردي هو المقياس الوحيد لما يمكن اعتباره معرفة.

من خلال تجربة "الشيطان الماكر"، يتصور ديكارت وجود قوة خبيثة تخدعه في كل ما يعتقده: في الحواس، في الحساب، في المنطق، وحتى في أبسط الحقائق. هذه الفرضية ليست سوى وسيلة قصوى لاختبار صلابة المعرفة. فإذا استطاع الإنسان أن يجد يقينًا لا يستطيع حتى هذا الشيطان أن يزعزعه، فذلك هو أساس الحقيقة. وهكذا يصل ديكارت إلى عبارته الخالدة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» («Cogito, ergo sum»). إنها لحظة التأسيس الكبرى للحداثة الفكرية، حيث يتحوّل الوجود إلى نتيجة للفكر، والذات إلى مركز للكون المعرفي.

لكن هذا "الكوجيتو" لم يكن نهاية الشك بل بدايته. فديكارت لم يكتفِ بأن يثبت وجود الذات المفكرة، بل انطلق منها ليبرهن على وجود الله كضامن للصدق، وليعيد بناء العالم المادي على أسس رياضية. ومع ذلك، فإن ما سيبقى من مشروعه عبر القرون ليس البرهان على الله ولا الطبيعة الميكانيكية للكون، بل هذا التوتر الوجودي بين الإنسان وعقله، بين الفكر واليقين، بين "الشيطان" و"الأنا".

إنّ ديكارت لم يقاتل الشيطان الخارجي، بل شيطانًا داخليًا هو الشك نفسه. لقد كان يدرك أن المعرفة لا تُولد من الطمأنينة، بل من القلق، وأن الفكر لا يشتدّ إلا حين يواجه المجهول. بهذا المعنى، يمكن القول إن ديكارت هو أول من حوّل الفلسفة إلى علمٍ للذات. فبينما كانت الفلسفة القديمة تبحث عن الحقيقة في الطبيعة أو في الله، جعلها ديكارت رحلة في أعماق الوعي الإنساني.

في هذا الحوار الداخلي، يصبح الشك فعل تطهير لا تدمير. الشيطان هنا لا يرمز إلى الشرّ الأخلاقي، بل إلى النقد العقلي الذي يجرّد الإنسان من الأوهام. هو معلمٌ قاسٍ لكنه ضروري، لأن بفضله يتكوّن الوعي النقدي الذي يميز الإنسان الحديث. ولعلّ الفيلسوف الألماني هايدغر كان مصيبًا حين قال إن ديكارت جعل الإنسان "سيد الكائن"، أي أنه جعل الذات تفكر العالم لا بوصفه معطى، بل كموضوعٍ للوعي والتحليل.

لقد تركت تجربة ديكارت أثراً عميقاً في كل الفلسفات التي جاءت بعده: من كانط الذي جعل "العقل الخالص" أساس الأخلاق والمعرفة، إلى هيغل الذي رأى في الذات المفكرة سيرورةً تاريخية للوعي، وصولاً إلى سارتر الذي حوّل الكوجيتو إلى صرخة وجودية للحرية. وهكذا أصبح الحوار الداخلي الذي بدأه ديكارت مع نفسه حواراً ممتداً بين كل العقول الحديثة.

في عصر الذكاء الاصطناعي اليوم، يعيد سؤال ديكارت حضوره بشكل جديد: ماذا يعني أن أفكر؟ وهل تفكير الآلة وجودٌ أم محاكاة؟ إنّ روح الشك الديكارتي ما زالت تحفّزنا على إعادة النظر في مفهوم الوعي ذاته. فالإنسان الذي تساءل في القرن السابع عشر عن إمكانية خداع الشيطان، يتساءل اليوم عن إمكانية خداع الخوارزمية.

وهكذا، لم يكن ديكارت مجرد فيلسوف العقل، بل فيلسوف العزلة التي تنقّب في أعماق الذات لتؤسس يقيناً إنسانياً جديداً. لقد حوّل الخوف من الشك إلى منهج للمعرفة، والهاجس من الوهم إلى شرطٍ للحقيقة. ومن ذلك الحوار الداخلي المظلم، وُلد نور العقل الحديث الذي لا يزال يرشدنا حتى اليوم.

إنّ "الشيطان الماكر" لم يكن إلا قناعاً للعقل نفسه، حين يختبر حدوده ويواجه ظلاله. ومن خلال هذا الحوار الصامت، صاغ ديكارت هوية الإنسان المفكر، وأطلق شرارة الفلسفة الحديثة التي جعلت من الذات ميدانها الأول ومن الشكّ لغتها الأصلية. لقد أثبت أنّ كل يقين لا يمرّ عبر نار الشكّ هو يقين هشّ، وأنّ المعرفة تبدأ من الجرأة على السؤال: «هل أنا موجود حقًّا؟»

«عبده حقي»

0 التعليقات: