ليست العيون مجرد نوافذ للجسد، بل مرايا مفتوحة على أعماقنا التي لا يجرؤ اللسان على البوح بها. في نظرة عابرة يمكن أن يُقرأ ما تختزنه الروح من رغبةٍ أو خيبة، من خوفٍ أو حنين، من حبٍّ دفينٍ أو حسرةٍ خرساء. فالعين، في ثقافتنا، ليست أداة للرؤية فقط، بل كائنٌ اجتماعيّ يشارك في الحوار بصمته البليغ.
في مجتمعاتٍ كثيرة تحتاج إلى الكلام لتوضيح المشاعر، غير أن مجتمعنا المغربي يتقن فنّ «النظر الناطق»؛ نظرة واحدة تكفي لتقول ما تعجز عنه خطب طويلة. غمزةٌ في مقهى، أو تبادل عيونٍ في قاعةٍ مكتظة، قد تختصر تفاهمًا سريًّا أو اتفاقًا خفيًّا أو حتى مؤامرة صغيرة لا تحتاج إلى توقيع. إنها رسائل «لاسلكية» تنساب عبر الهواء كما كانت تتنقل قديمًا إشارات البرق، قبل أن تُخترع الهواتف الذكية.
لكن هذه القدرة على التواصل الصامت، التي كان يمكن أن تكون دليلًا على ذكاء اجتماعي راقٍ، تحولت تدريجيًا إلى عادةٍ متطفّلة. فأعين الناس اليوم تمسح الآخرين كما تفعل آلات «السكانير»، تفتّش في أزيائهم، في مشيتهم، في هواتفهم، حتى في لون جواربهم، كأن المجتمع بأسره يعيش حالة تفتيشٍ دائم. لقد نسينا أن البصر نعمة للتأمل، لا أداة للتجسس.
من المؤسف أن العين التي خُلقت لتتذوّق الجمال صارت فينا شرطيًّا يتعقب العابرين. قلّ من يرفع بصره إلى معمارٍ جميل أو إلى لوحة الضوء على الجدران، أو إلى غصن شجرةٍ يراقص الريح. بدلاً من ذلك، نصرف طاقتنا البصرية في تقييم الناس وتصنيفهم وفق معايير اللباس والسيارة والهاتف، لا وفق ما يحملونه من روحٍ ومعنى.
ولعل ما رصده أحد السُّياح يومًا في مدينة مكناس يلخّص كثيرًا من طقوسنا الحياتية. فقد سأل متعجبًا: لماذا يسير المغاربة بمحاذاة الجدران ورؤوسهم مطأطأة؟ كان جوابي آنذاك بريئًا: «لأننا نبحث عن الظلّ هربًا من الشمس». لكنّي أدركت لاحقًا أن الأمر أعمق من ذلك؛ إنها ثقافة تربوية قديمة، ترى في رفع العين إلى الكبار أو إلى الوجوه الوجيهة نوعًا من قلّة الأدب. لذا كان المربّون قديماً يرددون على مسامعنا: «احذر عينيك!» أي اخفض بصرك، وكأن العين في حدّ ذاتها خطيئة ينبغي تهذيبها.
اليوم تغيّرت نظراتنا كما تغيّر إيقاع حياتنا. لم تعد تلك النظرات المشوبة بالخجل والاحترام هي السائدة، بل حلت محلها نظرات مشحونة بالتباهي والمقارنة. العين صارت مرآة لصراعٍ طبقي خفي، يعكس تفاوتًا في القدرة على الاستهلاك والاقتناء. فالماركات العالمية التي نحملها أو نرتديها لم تعد مجرد أدوات، بل إشارات اجتماعية تُطلقها العيون لقياس القيمة والهيبة.
تحولت المدينة إلى مسرحٍ للنظرات المتبادلة: نظرات الغني المذعور من اللصوص، ونظرات الفقير المتوجس من المتغطرسين، ونظرات الشباب المتأرجحة بين الإعجاب والغيرة، ونظرات النساء التي تحاول أن تتسلل من بين الحجاب والزجاج الداكن. كلٌّ يراقب الآخر بعينه، وكلٌّ يخاف أن يُراقب بدوره.
لقد أصبحت نظراتنا سجلاً مكشوفًا لتناقضاتنا: فيها بقايا الحياء القديم، وفيها أيضًا عنف التحديث المتوحش. العين التي كانت مرآة الحب صارت مرمى الشكّ، واللمعة التي كانت بشرى صارت شرارة مواجهة. ربما آن الأوان لأن نعيد تربية عيوننا، لا على الخوف ولا على الفضول، بل على الرؤية الجميلة التي تُنقذنا من عمى التوجّس والتصنيف.
فالعين التي لا ترى سوى الناس تغدو سجنًا، والعين التي ترى الجمال في الناس والأشياء معًا هي وحدها التي تُبصر الحياة.








0 التعليقات:
إرسال تعليق