الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، أكتوبر 03، 2025

البرهان الأنطولوجي عند أنسلم: بين الإيمان والعقل: ترجمة عبده حقي


يُعدّ أنسلم أسقف كانتربري (1033–1109) واحداً من أبرز الفلاسفة واللاهوتيين في العصور الوسطى، وقد ارتبط اسمه بما يُعرف في تاريخ الفلسفة بـ البرهان الأنطولوجي لوجود الله. هذا البرهان لم يكن مجرد محاولة عقلية لإثبات العقيدة الدينية، بل مثّل تحوّلاً في طريقة التفكير الميتافيزيقي، حيث أراد أنسلم أن يبرهن بالعقل وحده على ضرورة وجود الله، بعيداً عن الاستدلالات التجريبية أو النقلية.

ينطلق أنسلم من تعريف بسيط لكنه محمَّل بالدلالات:

"الله هو الكائن الذي لا يمكن تصوّر ما هو أعظم منه".

وفقاً لهذا التعريف، فإن مجرد وجود الفكرة في الذهن يكشف عن وجوب تحققها في الواقع؛ لأن وجود الكائن الأعظم في الذهن وحده، مع غيابه عن الواقع، يتناقض مع ماهيته. فإذا كان من الممكن تصور وجود ما هو أعظم، فلا يعود ذلك الكائن هو "الأعظم على الإطلاق"، وهذا يُفضي إلى تناقض. ومن هنا خلص أنسلم إلى أن الله، بما هو الكائن الأعظم الممكن تصوره، يجب أن يوجد في الذهن والواقع معاً.

لم يمر هذا البرهان دون اعتراضات، فقد تصدّى له معاصر أنسلم الراهب غاونيلو الذي استخدم مثال "جزيرة مثالية" ليُظهر ضعف الحجة. فإذا افترضنا جزيرة هي الأعظم بين الجزر، فهل يعني ذلك أنها موجودة في الواقع لمجرد أننا تصورناها؟ بهذا أراد غاونيلو أن يبيّن أن الانتقال من التصور الذهني إلى الوجود الخارجي ليس بالضرورة لازماً.

على الرغم من النقد، ظلّ البرهان الأنطولوجي مثار اهتمام الفلاسفة عبر العصور. في القرن السابع عشر، قام ديكارت بإعادة صياغته على أساس الكمالات الإلهية، مؤكداً أن الوجود جزء من ماهية الله كما أن مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة. وفي العصر الحديث، أعاد لايبنتز تطويره عبر التأكيد على انسجام الكمالات الإلهية وعدم تناقضها.

الأكثر تأثيراً كان توظيف البرهان في إطار المنطق المودالي على يد ألفين بلانتنغا في القرن العشرين، حيث استخدم فكرة "الأمكنة الممكنة" ليثبت أن وجود كائن أعظم واجب في جميع العوالم الممكنة، مما يجعل وجود الله ضرورياً.

أهم نقد فلسفي جاء من إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر، حين اعتبر أن "الوجود ليس صفة". فمجرد إضافة "الوجود" إلى مفهوم ما لا يزيد من كماله أو يغيّر من ماهيته. وفقاً لهذا التحليل، فإن الانتقال من التصور الذهني إلى تقرير الوجود الخارجي يظل قفزة غير مبرّرة.

كما أثيرت اعتراضات أخرى تتعلق بما إذا كان مفهوم "الأعظم الممكن" قابلاً للتحديد الموضوعي، أو ما إذا كانت فكرة الكمالات المطلقة يمكن أن تُصاغ بغير تناقض.

رغم النقد الشديد، ظلّ البرهان الأنطولوجي علامة فارقة في تاريخ الفلسفة الدينية. فهو يكشف عن طموح العقل البشري في إقامة حوار بين الإيمان والعقل، ويؤكد أن الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى لم تكن مجرد تكرار للنصوص الدينية، بل محاولة عقلية جريئة لإعادة تأسيسها على أسس منطقية.

إن البرهان الأنطولوجي لا يزال يُدرّس حتى اليوم، ليس باعتباره دليلاً حاسماً على وجود الله، وإنما كتمرين فلسفي عميق في طبيعة المفاهيم، والعلاقة بين الفكر والوجود، وحدود المنطق في مقاربة الأسئلة الميتافيزيقية.

0 التعليقات: