الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، أكتوبر 29، 2025

كيف يمكن لـ بلوكشين أن تمنح الصحافة المطبوعة مصداقية راسخة : ترجمة عبده حقي

 


في زمن تبدّلت فيه الصفحات الورقية إلى ساحات حرب سرديّة، تعيش الصحافة المطبوعة أزمة ثقة: القارئ بات يشكّ في أن الخبر الذي بين يديه هو أكثر من مجرد ترتيب كلمات وأرقام. وسط هذا المأزق، يلوح أمامنا احتمالٌ تكنولوجيّ واعد، وقد يشكّل — إن أحسن استثماره — مدخلاً جديداً للصحافة المطبوعة نحو استعادة مكانتها. أريد هنا أن أبحث في إمكانية أن تكون تقنية البلوكتشين «عملة الثقة» التي تحتاجها الصحافة الورقية، كيف؟ ولماذا؟ وما هي العوائق التي قد تعيق رحلتها؟

لابدّ أولاً من الإقرار بأن البلوكتشين، التي وُصفت بأنها «السبيل الذي قد لا يكون علاجاً لكل المرض» في مجال الصحافة، تستحق الوقوف عندها. hbr.org+2sciencedirect.com+2 فالفكرة مبنية على دفتر موزّع لا يمكن العبث فيه، يُسجّل فيه كل خطوة تكتّبها المادة الصحفية: من ولادتها مروراً بالتدقيق والتحرير والنشر، وصولاً إلى إعادة التوزيع أو التعديل. وكما قال المؤلفان في مقالهم بـ Harvard Business Review: «أول وسيلة يمكن أن يستعملها البلوكتشين لمكافحة المعلومات المضلّلة هي تتبّع مصادر الأخبار والتأكد منها». hbr.org

إذا صحّ القول بأن الصحافة المطبوعة في كثير من الحالات تشكّل “قِبلة” للتوثيق والأرشيف، فيمكن للبلوكتشين أن يضفي عليها بعداً جديداً، يدفعها من مجرد توثيق الحروف إلى سجلّ يصعب تزويره أو تغييره. الصحيفة الورقية إذاً لا تبقى مجرد نسخة تُوزّع بل تصبح شريكة في سجلّ رقمي عام، تخضع فيه كل صفحة، كل مقال، كل تعديل، لتوقيع مشفّر يُخزن في كتل ثابتة لا تحيد.

في السياق العمليّ، ثمة تجارب أولية تُبرهن بالقليل ما بالعديد. مثلاً، Reuters اختبرت أداة بلوكتشين جديدة لتوثيق الصور ومواقع التقاطها وتاريخها الزمني وكل تعديل يُجرى عليها، ثم تسجيل ذلك في دفتر موزّع. journalism.co.uk كذلك، وكالة Agenzia Nazionale Stampa Associata الإيطالية (ANSA) تعاونت مع شركة الاستشارات Ernst & Young لتطبيق تقنية مماثلة، بستهدف إعادة بناء الثقة التي هزّتها موجة “الأخبار الزائفة”. ey.com

لكن لماذا تكتسب الصحافة المطبوعة هذا الاهتمام تحديداً؟ لأنه رغم اندفاع الإعلام الرقمي، فإن الصحيفة الورقية ما زالت رمزاً للتثبيت، للقراءة المتأنّية، وللذاكرة المؤسّسية. فإذا استطاعت الصحافة المطبوعة أن تدّمج تقنية البلوكتشين في عمليّة النشر — مثلاً بتضمين رمز رقمي مرمّز في الطبعة الورقية أو نسخة PDF مصاحبة تُسجّل في شبكة بلوكتشين خاصة — فإنها تخلق ما أشبه بشهادة ولادة لا تنقضّ لمقالتها: من تاريخ النشر إلى التعديل، كل شيء يُسجّل، ويُصبح قابلاً للاستقصاء من قِبَل القارئ أو الباحث أو المؤرّخ.

هذه الإمكانية تتعدّى مجرد التوثيق إلى ضمان النسخ، التعديل، والتوزيع. إن الأمر يتجاوز فكرة «نحن صدّرنا هذا المحتوى» إلى «نحن سجّلنا هذا المحتوى عند نقطة زمنية محددة، ودعونا الجميع يشاهدوا». فكم من صحيفة ورقية سمحت للمتلقي أن يُثبت أن نسخة معيّنة نُشرت في تاريخ معين، وأنها لم تُعدّل أو تُحذف؟ كانت الإجابة غالباً "لا". والبلوكتشين يغيّر هذا الواقع عبر التوقيع الزمني غير القابل للإنكار، الذي يذكّرنا بفكرة "ختم الشمع" في الوثائق القديمة، لكن هذه المرة في فضاء رقمي موزّع، لا يستطيع أحد أن يقول: «لقد تغيّرت المادة بعد النشر».

مع ذلك، الخيال ليس وحده كافياً. هناك تحديات تقنية، تنظيمية وثقافية. على سبيل المثال، دمج نظام بلوكتشين مع طباعة ورقية يتطلّب بنية تحتية: هل سيتم طباعة رمز QR في الصحيفة يشير إلى سجلّ التوثيق؟ من يمول ذلك؟ ومن يتولى صيانة الشبكة؟ وأيضاً، ثمة مسألة الوعي: هل القارئ العادي يفهم أو حتى يهتم بهذه المسائل التقنية؟ هذه الأسئلة ليست صغيرة. تشير إحدى الدراسات إلى أن اعتماد حلول البلوكتشين في الصحافة لا يقتصر على تبنّي أدوات جديدة فحسب، بل يتصل بفهم دور الصحافي والمهنية الإعلامية في مجتمع تتداخل فيه الأدوار. Frontiers

فضلاً عن ذلك، الجوّ الاقتصادي للصحافة المطبوعة في بعض الدول، وخاصة في شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط، لا يزال هشّاً، والموارد غالباً ما تكرّس للكتابة والتوزيع، وليس للبنية التقنية المتقدمة. وبالتالي، فإن إدخال بلوكتشين في عملية النشر المطبوعة قد يواجه مقاومة أو تقاعساً بسبب التكلفة أو غياب الشركاء التقنيين أو بُعد الأولويات.

إضافةً، يبقى السؤال حول مدى قدرة التقنية على أن تصبح نقطة تفاعلية بين الصحيفة والقارئ: هل سيشعر القارئ بأن وجود التوقيع الرقمي أو الدخول إلى سجلّ التوثيق يمنحه قيمة مضافة؟ أو هل سينظر إليه كإجراء تقني عبثي؟ قد يكون نجاح التطبيق متوقفاً ليس على التقنية وحدها، بل على خلق ثقافة صحافية تُقدّر الشفافية، تُقدّم للمكان الصحفي، وتُقنع القارئ بأن الصحيفة التي يحملها هي «مضمون موثوق».

في الختام، يمكن القول إنّ تقنية البلوكتشين تحمل وعداً حقيقياً للصحافة المطبوعة: تحويل الورقة إلى سجلّ ذي مصداقية، وتحويل القارئ من متلقٍ إلى مراقب-شريك في عملية التوثيق. لكنها ليست وصفة سحرية تُطبّق ببساطة: نجاحها يتطلّب رؤية استراتيجية، استثماراً تقنيّا، وتغييراً في ثقافة النشر. إذا تحقّقت هذه الشروط، فقد تكون صحافتنا المطبوعة في المغرب والعالم العربي على موعد مع مرحلة جديدة، حيث لا تكتفي بكلمة “نشرت” بل تقول بثقة: “سُجّلت”.

0 التعليقات: