لم أعد أستطيع النظر إلى الخبر كما كنت أفعل قبل سنوات. ما يجري الآن أشبه باهتزاز خفيّ في قلب المهنة، اهتزاز لا نراه، لكنه يغيّر إيقاع كل شيء حولنا. الحوسبة الكمية لم تعد مجرد فكرة يتداولها الفيزيائيون، بل أصبحت تطرق أبواب غرف التحرير، تهمس للصحفي: “لن تنتظر طويلًا… العالم كلّه أصبح في جزء من الثانية.”
هناك شيء غريب في هذا الصعود الجديد. فالأجهزة التي تُشبه خزائن معدنية باردة، تلك التي تعمل على كبح ضوضاء الكون للوصول إلى “كيوبت” واحد مستقر، بدأت تؤثر في طريقة بناء الخبر. يشبه الأمر أن تمتلك آلة تفكر بعدّة احتمالات في الوقت نفسه، ثم تعود إليك بالمسار الأكثر دقة. لم يكن هذا ممكنًا حتى قرأت التقارير التي نشرتها Google وIBM، ولاحقًا تحليلات MIT التي تحدثت عن “غرف أخبار تنبؤية” قد تصبح حقيقة خلال سنوات قليلة.
المسألة لم تعد تتعلق بالسرعة فقط. السرعة كانت دائمًا جزءًا من عملنا. الجديد هو قدرة هذا النوع من الحوسبة على فهم الفوضى الرقمية كما يفهم الصياد حركة الريح. ملايين المنشورات، آلاف الصور، مئات التسجيلات… كلّها تُصبّ فجأة في معالج واحد يمكنه أن يُرجع لك خيطًا صحفيًا واضحًا: “هنا الاتجاه… هنا الخلل… هنا القصة.”
وبينما كنت أقرأ تحليل Wired حول تأثير الأنظمة الكمية في التحقيقات الاستقصائية، تخيّلت كيف كان يمكن أن يبدو تحقيق Panama Papers لو امتلك الصحفيون أدوات كهذه. ربما كان سيُكشف نصفُ الفساد المدفون قبل أن ينتبه أصحابه إلى خطر التسريب.
لكنّ الصورة ليست وردية تمامًا. فالقدرة نفسها التي تمكنك من كشف شبكات الفساد، يمكن أن تُستخدم لرسم حملات تضليل أكثر دهاءً. تخيّل نظامًا قادرًا على توقع ردود فعل الجمهور، وعلى هندسة السرديات بدقة تُشبه دقة الجراح. هنا، يصبح الإعلام في اختبار أخلاقي لا مفر منه.
أشعر أحيانًا أن الخبر نفسه سيصبح “كميًا”: لا يتحدد في صيغةٍ نهائية حتى يصل إلى القارئ، وأنّ الصحفي قد يجد نفسه مضطرًا لإعادة تعريف دوره، ليس بصفته صانعًا للمحتوى فحسب، بل مراقبًا لتدفّق معلومات لا يتوقف.
ورغم كل هذا، يبقى شيء ثابت: الإنسان. مهما كان بريق التكنولوجيا، فإن القلم—بكل ارتباكه ومكابدته وتردده—هو الذي يعطي الخبر روحه. الحوسبة الكمية قد تغيّر الأدوات، لكنها لن تنتزع من الصحفي تلك اللحظة التي يشبه فيها نفسه وهو يطارد الحقيقة، كمن يمشي على حافة ضوء لا يثبت على حال.








0 التعليقات:
إرسال تعليق