الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، نوفمبر 04، 2025

رواية البصمة الحيوية: الأدب في عصر الاستجابة الجسدية: عبده حقي


 لم تعد الرواية، في زمن الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، نصًّا جامدًا يُقرأ على الورق أو الشاشة، بل أصبحت فضاءً تفاعليًا يتنفس مع القارئ ويقيس نبضه وانفعالاته. هذا التحول الجذري تجسده ما يُعرف اليوم بـ"الرواية الحيوية" أو The Biometric Novel، وهي تجربة أدبية ناشئة تقوم على دمج البيانات الفيزيولوجية للقارئ — مثل معدل نبض القلب، تغيّر حرارة الجلد، أو حركة العين — داخل العملية السردية نفسها، لتتحول القراءة إلى حدث جسدي ــ نفسي يتفاعل مع القارئ كما يتفاعل الموسيقي مع جمهوره في لحظة العزف.

يبدو أن جذور هذه الفكرة تمتد إلى النظريات الجمالية القديمة التي ربطت التلقي بالإحساس، كما نجد عند الفيلسوف جون ديوي في كتابه Art as Experience (1934)، حيث رأى أن الفن الحقيقي لا يتحقق إلا إذا اندمج الإدراك الحسي بالخبرة الوجدانية. لكن التقنية الحديثة أعادت تعريف هذا الاندماج عبر تحويل الجسد نفسه إلى جهاز استشعار داخل النص. إن الرواية الحيوية، بهذا المعنى، ليست مجرد ابتكار تكنولوجي، بل هي ثورة في نظرية التلقي؛ فالقارئ لم يعد متلقياً سلبياً، بل أصبح مُشاركًا فعليًا في إعادة كتابة النص من خلال إشارات جسده اللاواعية.

في جامعة ستانفورد، على سبيل المثال، أُجريت تجارب على قصص رقمية تتغير نبرتها ووتيرتها وفق التغيّر في تفاعل القارئ العاطفي الذي تلتقطه أجهزة eye-tracking ومستشعرات الجلد (galvanic skin response). فإذا شعر القارئ بالخوف، يتباطأ السرد وتزداد الإضاءة القاتمة في الشاشة، أما إذا ارتفعت مؤشرات الارتياح، فقد تتحول الأحداث إلى نغمة أكثر دفئًا. هنا يصبح النص أشبه بكائن حي يقرأ قارئه ويعيد تشكيل ذاته. هذه التجارب تتقاطع مع ما تنبأ به الروائي الأمريكي Neal Stephenson في روايته The Diamond Age (1995)، حين تخيل "كتاباً تفاعليًا" يربي القارئ ويستجيب لمشاعره في الزمن الحقيقي.

لكن هذا الشكل من الأدب يثير تساؤلات فلسفية وأخلاقية معقدة. فهل ما يُنتَج في هذه الحالة يظل "رواية" بالمعنى التقليدي، أم يتحول إلى تجربة حسية مفتوحة؟ وهل يمكن اعتبار القارئ الذي تتغير أمامه الأحداث وفق نبضه شريكًا في الإبداع، أم أنه مجرد كائن تُستغل بياناته في لعبة سردية تجريبية؟ في مقال نشرته مجلة Wired عام 2024، حذّر النقاد من أن تحويل الجسد إلى مصدر بيانات قد يؤدي إلى "تسليع العاطفة"، حيث تصبح المشاعر وحدات قابلة للقياس والتحليل التجاري كما يحدث في تطبيقات تتبع النوم والمزاج.

من ناحية أخرى، يرى المدافعون عن الرواية الحيوية أن هذا الاتجاه يمثل ذروة الديمقراطية الأدبية، لأنه يعيد الاعتبار للقراء بوصفهم شركاء في صناعة المعنى. وكما يقول الباحث الإسباني José Luis Brea في كتابه La Era Postmedia، فإن الأدب في عصر الوسائط المتعددة لم يعد نصًا مكتوبًا فقط، بل "تجربة متعددة الوسائط تتجسد في اللغة، الصورة، والصوت، وفي جسد المتلقي ذاته". الرواية الحيوية تُجسّد هذا التعريف بدقة مذهلة؛ فهي تفتح النص على احتمالات لا نهائية، حيث لا توجد نسختان متطابقتان من العمل نفسه، لأن كل جسد يقرأه يترك أثره الخاص عليه.

على الصعيد العملي، بدأت شركات مثل ReBlink وEmotiv في تطوير تطبيقات تجريبية تتيح للكتّاب إدراج مؤشرات حيوية في أعمالهم، بحيث يمكن لرواية واحدة أن تُقرأ بعشرات الطرق وفق الإشارات التي يرسلها القارئ عبر أجهزة الاستشعار أو نظارات الواقع المعزز. تخيّل رواية رومانسية تتحول إلى مأساة لمجرد أن عين القارئ ارتجفت من الخوف، أو نصًّا فلسفيًا يتبدّل مساره لأن نبضه ازداد حين واجه سؤالًا وجوديًا. إنها، باختصار، عودة الأدب إلى منبعه الأصلي: الحياة المتحركة في الجسد.

ورغم هذا الأفق الواسع، يبقى التحدي الأكبر في الموازنة بين الإبداع الفني والانضباط العلمي. فالنص الروائي، مهما بلغ من التفاعلية، يجب أن يحافظ على جوهره الجمالي، أي على لغته ورموزه واستعاراته التي تُحاور العقل والوجدان معًا. أما تحويله إلى معادلات بيولوجية صرفة، فقد يسلبه تلك الروح الشعرية التي تجعل الأدب أكثر من مجرد تجربة قابلة للقياس. يشبه الأمر عازف بيانو بارعًا يؤدي مقطوعة وفق إشارات دماغ الجمهور، لكنه يفقد لحظة العفوية التي تصنع الفن الحقيقي.

في النهاية، تبدو "الرواية الحيوية" تجسيدًا لمرحلة جديدة في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا والأدب معًا. إنها تجربة تتجاوز الورق والشاشة لتصل إلى العصب والنبض، إلى تلك المنطقة التي تلتقي فيها اللغة بالجسد، والفكر بالإحساس. قد نختلف في تقييمها — بين من يراها ثورة جمالية ومن يراها انزلاقًا نحو أدب خالٍ من الروح — لكنها تظل بلا شك علامة فارقة في مسار السرد الحديث، ودعوة مفتوحة إلى التفكير في سؤال أبدي: من يكتب من؟ الكاتب أم القارئ أم الجسد الذي يتحدث في صمت بينهما؟


0 التعليقات: