يبدو الحديث عن الثقافة ترفًا مؤجلًا إلى “ما بعد” الضرورة. غير أن ما يجري في المغرب خلال الأسابيع الأخيرة، من إشبيلية إلى الرباط وطنجة، يقدّم صورة معاكسة تمامًا؛ صورة بلد يختار، عن وعي أو بدونه، أن يدافع عن نفسه ثقافيًّا، قبل أن يفاوض سياسيًّا أو اقتصاديًّا.
1. حين تصبح الحرفة خطابًا ثقافيًّا عابرًا للحدود
اللافت في الحراك الثقافي الراهن أنه يبدأ من الحرف التقليدية، تلك التي اعتدنا وضعها في خانة “الفولكلور” أو “التراث السياحي”. أسبوع "We Love Morocco" في إشبيلية، والذي يجمع بين الصناعة التقليدية المغربية والعروض الثقافية، ليس مجرد معرض لمنتجات جلدية أو نحاسية، بل هو مسرح رمزي تُعاد فيه كتابة علاقة المغرب بذاته وبالآخر: إسبانيا، أوروبا، والسائح العالمي الذي يمر من هناك..
في هذا الفضاء، يتحوّل الصانع التقليدي إلى دبلوماسي بصمت؛ يقدّم عبر حركة يده، ونقشة زليج، وتطريزة فاسية، سردية مضادّة لصور نمطية عن بلد تقفز إليه الأخبار عادة من بوابة السياسة أو الهجرة فقط. كل قطعة معروضة في جناح الحسن الثاني بإشبيلية تقول، بشكل غير معلن: هذا بلد يملك ذاكرة مادية راسخة، لكنه مستعد لأن يفاوض عليها مع العالم على أرضية الاحترام المتبادل، لا على قاعدة الاستهلاك الرخيص.
هذا البعد يتعزز في الداخل عبر برنامج "الكنوز الحرفية المغربية"، الذي تسعى من خلاله وزارة الثقافة وشركاؤها إلى حصر الحرفيين وتصنيف معارفهم، ومنحهم وضعية ثقافية وقانونية تقيهم من الذوبان في اقتصاد السوق المنفلت. هنا لا تعود الحرفة مجرد نشاط اقتصادي، بل حقلًا سياسيًّا خفيًّا؛ فإهمال الحرف التقليدية، في النهاية، هو نوع من محو الذاكرة الجماعية وإفقار المخيال المشترك.
2. الموسيقى كجغرافيا جديدة للهوية
على مستوى آخر، تشكّل الموسيقى في المغرب اليوم جغرافيا ثانية للهوية، جغرافيا لا تعترف بالحدود السياسية بقدر ما تتنفس من خلال المهرجانات والأسواق الفنية. مهرجان Visa For Music، في دورته الثانية عشرة، نموذج صارخ على ذلك؛ فهو ليس مهرجانًا جماهيريًّا فحسب، بل سوقًا للتلاقي المهني بين منتجين وفرق وفنانين من إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، ضمن برمجة تستحضر العدالة الجندرية (30% من المهنيين نساء) وتحرص على فتح الأبواب أمام الشباب بأسعار مخفّضة وبرامج موازية في الثانويات والجامعات..
في هذا الفضاء، يصبح المغرب محورًا ثقافيًّا إقليميًّا؛ فالفنان الذي يعتلي منصة الرباط لا يقف فقط أمام جمهور محلي، بل يخاطب شبكة من المهنيين القادمين من 80 دولة، ومعهم منصات أخرى محتملة، وتعاقدات، وجمهور عالمي مستقبلًا. هنا يلتقي “الرأسمال الثقافي” بالرأسمال الشبكي، وتصبح الموسيقى جسرًا فعليًّا للاقتصاد الإبداعي.
ولا يبتعد مهرجان الدوحة السينمائي 2025 عن هذا الأفق، حتى وهو ينعقد خارج الحدود المغربية؛ فاختيار فيلم عربي ("صوت هند رجب") لافتتاح دورة تحتفي بالعام الثقافي قطر–الأرجنتين–تشيلي، يؤكد أن المخيال العربي حاضر في مفاوضة سرديات العالم، وأن الفن السابع ما زال قادرًا على صياغة خطاب ثقافي عابر للقارات. بالنسبة للمغرب، الذي يشارك في هكذا فضاءات عبر أفلام أو مهنيين، يشكل هذا نوعًا من الحضور غير المباشر، لكنه مهم في رسم صورته كفاعل في الحقول الثقافية العربية والعالمية.
3. المسرح والذاكرة: من المسيرة الخضراء إلى
"المثقف وذاكرته"
في العمق، لا يمكن الحديث عن ثقافة دون المرور من بوابة الذاكرة الجماعية. المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، حين يختار الاحتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء عبر أمسية فنية، فإنه لا يمارس بروتوكولًا احتفاليًّا فقط، بل يحاول أن يعيد كتابة المسيرة بلغة الجسد والصوت والسينوغرافيا، بعيدًا عن الخطابات الرسمية الصلبة..+1
في طنجة، يمضي مسرح رياض السلطان خطوة إضافية حين يزاوج بين عرض مسرحي بعنوان "الهامش" وسهرة موسيقية تحت عنوان "لؤلؤة البحيرات الراكدة"، ثم يخصص يومًا للقاء فكري حول "المثقف وذاكرته" بمشاركة باحث في الأنثروبولوجيا وذاكرة شمال إفريقيا. بهذا المعنى، يتحول المسرح إلى مختبر لذاكرة المدينة؛ مكان تتقاطع فيه أسئلة الهامش والمركز، الفردي والجماعي، المحلي والعالمي.
الجميل في هذه المبادرات أنها ترفض الفصل بين “العرض” و“التفكير في العرض”. لقاء "المثقف وذاكرته" ليس ترفًا نظريًّا ملحقًا بالبرمجة، بل هو اعتراف ضمني بأن الثقافة ليست حدثًا عابرًا، بل سلسلة من الطبقات التراكمية التي تحتاج إلى من يحفر فيها ويضعها في سياقاتها السياسية والاجتماعية.
4. الشعر كتنفّس جماعي في بيت الشعر
لا يكتمل هذا المشهد دون الشعر، ذلك الفن الذي يصرّ على البقاء حيًّا رغم كل ما يُقال عن أفول القراءة. مبادرة "أنفاس شعرية" في بيت الشعر بالمغرب تأتي في قلب هذه الرغبة في إعادة الشعر إلى فضائه الطبيعي: فضاء اللقاء الحي، والموسيقى، والنقاش المفتوح. أن يرتبط هذا البرنامج بمهرجان "موسيقى بدون تأشيرة" ليس صدفة؛ فالشعر هنا يتغذّى من إيقاعات الموسيقى، والموسيقى تستعيد قدرتها على الإنصات إلى الكلمة.
نحن أمام تنفّس جماعي؛ شعراء، موسيقيون، جمهور متنوع، يستعيدون عبر لفظة أو مقطع موسيقي أو لحظة صمت، القدرة على أن يكونوا معًا في زمن يهدد فيه العالم الرقمي كل أشكال الحضور الجسدي.
5. من الدعم المالي إلى السياسة الثقافية: أين
الشباب من كل هذا؟
في الخلفية، تعمل أرقام الدعم العمومي للكتاب والنشر كنوع من البنية التحتية لهذا النشاط الثقافي. تخصيص أزيد من 10,9 مليون درهم لدعم مئات المشاريع في مجال الكتاب والنشر ليس تفاصيل تقنية في بلاغ رسمي، بل هو إشارة إلى تحوّل تدريجي في نظرة الدولة إلى الثقافة، من عبء مالي إلى استثمار في الصناعات الإبداعية.
مع ذلك، يطرح سؤال جوهري: أين يقف الشباب من كل هذه البرامج؟ دراسات حول موقع الشباب في السياسات الثقافية بالمغرب تبيّن أن الحديث عن “الديمقراطية الثقافية” لا يكتمل دون ضمان حق الجميع في الولوج إلى الثقافة، وضمان حق كل التعبيرات الثقافية –بما فيها تعبيرات الشباب الرقمية والهامشية– في الوصول إلى الجمهور..
إذا ظلّت المبادرات الثقافية حبيسة المراكز الكبرى (الرباط، الدار البيضاء، طنجة…) ولم تُترجم إلى سياسات توزيع مجالي عادل للبنيات التحتية الثقافية، فإن جزءًا من المجتمع سيظل خارج اللعبة، وسيشعر أن المهرجانات والحفلات والمعارض ليست سوى صور في نشرات الأخبار، لا جزءًا من حياته اليومية.
6. نحو تعاقد ثقافي جديد: من "الورقة الثقافية"
إلى “المدينة الثقافية”
تُطرح في هذا السياق فكرة "الورقة الثقافية" التي تنادي بها بعض الأصوات الفكرية والحزبية، كأرضية لتعاقد ثقافي جديد في المغرب؛ تعاقد يستحضر الفاعلين الثقافيين، ويحدّد أهدافًا واضحة، ويربط بين الاستثمار في البنية الثقافية وبين التنمية الاقتصادية والاجتماعية..
انطلاقًا من الرصد السابق، يمكن القول إن عناصر هذا التعاقد موجودة في الواقع، لكنها مبعثرة:
هنا مهرجان موسيقي يحوّل الرباط إلى نقطة التقاء فنية عالمية؛
هناك برنامج لحماية الحرف التقليدية ينقذ ذاكرة اليد؛
في مكان آخر مسرح محلي يتحول إلى مختبر للذاكرة الجماعية؛
وفي فضاءات عربية مجاورة مهرجانات سينمائية تعيد كتابة صورة الجنوب في مرآة العالم.
لكن ما ينقص هو الخيط الاستراتيجي الناظم: رؤية واضحة تُجيب عن أسئلة
من قبيل:
من نريد أن نكون ثقافيًّا خلال عشر سنوات؟
أي صورة نريد أن نعطيها عن المغرب في المشهد الدولي؟
وكيف نضمن أن لا تتحوّل الثقافة إلى مجرد مناسبات موسمية مرتبطة بالدعم والميزانيات، ثم تنطفئ بانطفائها؟
7. خاتمة: المغرب كـ"مختبر ثقافي مفتوح"
ما تكشفه خريطة الأحداث التي رُصدت، من إشبيلية إلى الرباط وطنجة والدوحة، هو أن المغرب يتحوّل تدريجيًّا إلى مختبر ثقافي مفتوح؛ بلد يجرب، يخطئ، يصيب، لكنه لا يتوقف عن إنتاج المبادرة:
يرسل حرفييه إلى العالم ليتكلموا لغة الزليج والجلد والخشب.
يدعو موسيقيي العالم إلى الرباط ليتفاوضوا على هوية إيقاع جديد.
يفتح مسارحه أمام أسئلة الهامش والذاكرة.
ويعيد الشعر إلى الشارع والقاعة والصالون، لا إلى الكتب فقط.
التحدي الحقيقي اليوم ليس في تعدّد هذه المبادرات، بل في استدامتها وقدرتها على خلق أثر عميق في المجتمع: أن يتحول حضور مهرجان أو أمسية شعرية أو معرض حِرف إلى تغيير في علاقة المواطن بالكتاب، بالمسرح، بالسينما، بالفضاء العام نفسه.
وحين يحدث ذلك، يمكننا أن نقول إن المغرب لم يعد يكتفي بالدفاع عن نفسه
سياسيًّا أو اقتصاديًّا، بل صار يدافع عن نفسه ثقافيًّا أيضًا؛ أي عبر أجمل ما يملكه:
ذاكرته، وحكايته، وأصوات فنانيه، وتوقه الدائم إلى أن يكون جزءًا فاعلًا من حوار عالمي
لا مكان فيه للصامتين.








0 التعليقات:
إرسال تعليق