الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، نوفمبر 06، 2025

التأبين في عصر الذكاء الاصطناعي بين الذاكرة والأخلاق: عبده حقي

 


في العقود الأخيرة، لم يشهد العالم فقط ثورةً في الذكاء الاصطناعي من حيث قدرته على الترجمة، والتحليل، والابتكار، بل تجاوزت تلك الثورة ما كان يُعتبر سابقاً مجالاً حصرياً للإنسان: كتابة المراثي والتأبينات. إنّ «التأبينات المولّدة بالذكاء الاصطناعي» (AI-Generated Obituaries) لم تعد فكرة طوباوية أو مشهداً من روايات الخيال العلمي، بل أصبحت واقعاً ناشئاً يتحدى مفاهيمنا عن الحزن، الذاكرة، والكرامة الإنسانية.

في المجتمعات الغربية تحديداً، ظهرت شركات ومبادرات رقمية تستخدم تقنيات التعلم العميق لكتابة نصوص تأبينية بناءً على بيانات الشخص المتوفّى، منشوراته، وصوته أحياناً. تشير مقالة نشرتها صحيفة The Guardian عام 2024 إلى أنّ بعض الأسر في الولايات المتحدة بدأت تستخدم الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء سيرة أحبّائها، بل وأحياناً لإنتاج مقاطع صوتية لهم تُلقى في مراسم الدفن. هذه الظاهرة، رغم ما تمنحه من «راحةٍ رقمية»، تثير أسئلة ميتافيزيقية وأخلاقية عميقة: من يملك الحق في إعادة إحياء صوت الميت؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أميناً على الذاكرة البشرية دون أن يفرّغها من معناها؟

من منظورٍ فلسفي، يمكن قراءة هذا التحوّل بوصفه امتداداً لما يسميه والتر بنجامين في مقالته الشهيرة العمل الفني في عصر الاستنساخ التقني بفقدان «الهالة»؛ فحين تُنتج الآلة نصّاً عن الموت، تفقد الكلمات تلك الهالة الفريدة التي يهبها الحزن الإنساني الأصيل. النص المولَّد آلياً، مهما بلغ من البلاغة، يظل بارداً، محايداً، بلا حرارة العاطفة التي تُضفيها اليد البشرية المرتعشة على الحروف الأخيرة. ومع ذلك، فإنّ البعض يرى في هذه التقنية وسيلة لتخفيف وطأة الفقد، إذ تسمح للذكاء الاصطناعي بجمع شتات الذاكرة وتقديمها في صياغة أدبية منمّقة، كما لو كان الميت يروي قصته الأخيرة بنفسه.

تستدعي هذه الظاهرة أيضاً نقاشاً أخلاقياً حول الحدود بين الخصوصية والتذكّر. في دراسة نشرتها مجلة AI & Society عام 2023، حذّر الباحثون من خطر «الاستغلال العاطفي» للذكريات، خاصةً حين تقوم الشركات التجارية بتحويل الحداد إلى منتج رقمي قابل للبيع. هنا يتقاطع السؤال الأخلاقي مع القانوني: هل يجوز استخدام بيانات الشخص بعد موته دون إذنٍ مسبق؟ وهل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي وريثاً للذاكرة الإنسانية؟ هذه الإشكاليات لا تقل تعقيداً عن تلك التي أثيرت حول الذكاء الاصطناعي في الفن أو الصحافة، لكنها أكثر حساسية لأنها تمسّ الجوهر الإنساني ذاته، أي العلاقة بين الحياة والموت.

ولعلّ المفارقة الكبرى تكمن في أنّ هذه التكنولوجيا التي صُمّمت لتقليد الذكاء البشري، أصبحت اليوم تكتب عنه بعد رحيله. يشبه الأمر لوحة مرآة تعكس وجه الغائب، لكنها تُعيد تشكيل ملامحه وفق خوارزميةٍ لا تعرف الحزن ولا النسيان. في هذا السياق، يمكن القول إنّ الذكاء الاصطناعي لا يكتب عن الميت بقدر ما يكتب عن علاقتنا نحن بالموت، وعن رغبتنا الدفينة في مقاومته بلغةٍ جديدة.

وفي العالم العربي، لا تزال الفكرة في مراحلها الجنينية، لكن المؤشرات التقنية والإعلامية توحي بأنّها ستبلغنا عاجلاً أو آجلاً. تخيّل أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة رثاء شاعر أو مفكر مغربي بناءً على أرشيفه الرقمي، أو أن يُنشر تأبينٌ افتراضيّ للراحلين من كتّابنا في المنصات الثقافية الكبرى. سيبدو المشهد جذّاباً من حيث التوثيق، لكنه قد يحمل بذور اغترابٍ جديدٍ للذاكرة الجماعية، حيث يُختزل الإنسان في بيانات، وتُختصر سيرته في خوارزمية.

لقد اعتاد الإنسان منذ فجر الحضارات أن يودّع أحبّاءه بالكلمة، بالدمعة، وبالصمت. أما اليوم، فيبدو أنه يودّعهم ببرمجيةٍ قادرة على محاكاة كل شيء ما عدا الصدق العاطفي. إنّ صعود التأبينات الذكية يعيدنا إلى سؤال جوهري: هل نكتب لنُبقي الأحياء في الذاكرة، أم نكتب لنقهر الموت ذاته؟ الجواب، كما يبدو، لم يعد حكراً على الشعراء أو الفلاسفة، بل صار مطروحاً على مطوّري الخوارزميات ومهندسي اللغة أيضاً.

إنّ المستقبل الذي نقترب منه يُعيد تعريف مفهوم «الخلود»، لا بوصفه وعداً ميتافيزيقياً، بل كامتدادٍ رقميّ للوجود الإنساني. وربما سيأتي يومٌ تُكتب فيه كل التأبينات بذكاءٍ اصطناعي، فتتحول الذاكرة الإنسانية إلى أرشيفٍ لا ينتهي. غير أنّ الخطر الأكبر يكمن في أن نصبح نحن أنفسنا مجرد «بيانات مؤبّنة»، محفوظة في سحابةٍ رقمية، تُستدعى كلما اشتاق أحدٌ إلينا، كما تُستدعى القصائد القديمة في ذاكرة الشعراء.

وهكذا، يظلّ السؤال مفتوحاً على حافة الأخلاق والتكنولوجيا: هل نحن أمام شكلٍ جديد من التعبير الإنساني، أم أمام بداية نهاية اللغة كأداةٍ للوجدان؟ ربما الاثنان معاً، في زمنٍ يتداخل فيه الموت بالحوسبة، وتصبح فيه الكتابة نفسها مرآةً رقميةً لآخر أنفاس الإنسان.


0 التعليقات: