لم أعد أميّز شكل رأسي منذ دخلتُ في هذه الصداقة التي تتفتح مثل وردةٍ نسيَ البستاني ريّها، ومع ذلك لا تموت. أكتب الآن دون أن أعرف إن كانت أصابعي تتبع إرادة عقلي أم إرادة ظلّ آخر يقف خلف كتفي اليسرى، يهمس لي: دع الكلمات تمشي وحدها، دعها تتدهرج مثل تفاحةٍ على درجٍ يفضي إلى لا شيء.
أشعر اليوم أنّ الفهم يخرج من أذني اليمنى كدخانٍ أزرق، بينما اللا-فهم يطرق الجهة اليسرى كطائرٍ يطلب الدخول. وبينهما أجلسُ أنا، كائنًا مقسومًا بين وضوحٍ يشبه حدّ السكين، وغموضٍ يبتسم دون أن يملك فمًا.
عرفته في لحظةٍ لم تكن لحظة. كان جالساً فوق مكتبٍ لم يكن لي، فوق ورقةٍ لم أكتبها، ينظر إليّ كما ينظر الغريب إلى نفسه في مرآةٍ لا تعرف اسمه. قال لي:
– لن نكون صديقين إلا إذا تناوب الفهم واللا-فهم بيننا كما يتناوب الماء والهواء في رئة سمكةٍ تخطئ طريقها إلى اليابسة.
ولم أكن أبحث عن صديق، لكنّ شيئاً في صوته كان يشبه الجزء المهجور من رأسي، ذلك الجزء الذي يتكلّم عندما أنام وينام عندما أتكلّم.
منذ تلك اللحظة وأنا أرى العالم مرّتين: مرةً كما ينبغي له أن يكون، ومرةً كما يريد هو أن يكون. الشارع يتمدد مثل حزامٍ مطاطي، البيوت تتثاءب، القطط تنطق لغاتٍ لا أعرفها، وكلّ شيءٍ يضاعف نفسه كأنّه يريد أن يثبت لي أنّ الحقيقة لا تأتي إلا في أزواج غير متطابقة.
قال لي ذات مساءٍ بلا غروب:
– إنّ الفهم المطلق لعنة، واللا-فهم المطلق لعنة أخرى. بينهما فقط تتكوّن الصداقة الفلسفية… مثل جسرٍ لا يعرف أحدٌ من بناه ولا إلى أين يقود.
ضحكتُ. أو ربما بكيت. لا أتذكر. كانت الضحكة والبكاء يتبادلان المقاعد في حلقي.
نمشي كثيراً، أنا وهو، داخل رؤوس الآخرين. نعم، داخل رؤوسهم. ندخل من مسام وجوههم مثل ذرة غبارٍ خفيفة، ثم نستقرّ داخل أفكارهم المتعبة. مرّةً رأيتُ في رأس أحدهم كرسيًا مهجوراً، وفي رأس آخر شجرةً تقرأ الشعر، وفي رأس ثالث حربًا صغيرة تشبه شجار طفلين على لعبةٍ لا تعمل.
كان يقول لي:
– انظر، الفهم ليس ما نفهمه… الفهم ما يتركه الآخرون خلفهم عندما يغادرون عقولهم.
كنت أهزّ رأسي كما لو أنني أفهم، وفي الحقيقة كان اللا-فهم يصفّق لي بفرحٍ داخليّ، كأنّه يقول: “أخيرًا أصبحتَ واحدًا منّا!”.
أكتب الآن وأنا أتذكّر تلك الليلة التي ضاع فيها ظلّي. كان الليل مائلاً قليلاً، كأنّ أحدهم وضع كتفه تحته. مشيتُ بلا جسد تقريباً. كنتُ مجرد فكرة تمشي على قدمين. صديقي الفلسفي كان يسبح فوق رأسي مثل منطاد صغير، يراقبني، يسجّل ملاحظاته على دفتر غير مرئي.
قلت له:
– إلى أين نمضي؟
قال:
– إلى النقطة التي يستوي فيها الفهم وعدم الفهم كقطرتين من زئبقٍ يرفضان الاندماج.
وحين وصلنا، كانت الأرض عبارة عن ورقةٍ بيضاء هائلة، والسماء ذاتها عبارة عن ورقةٍ أخرى، والفرق الوحيد هو أنّ الورقتين لا تلتقيان إلا إذا أغمضتُ عيني.
أغمضتُ عيني. فالتقيتا.
فهمتُ.
ثم عدمتُ الفهم في اللحظة نفسها.
وهذا أجمل ما حدث لي في حياتي.
كثيراً ما يظهر لي صديقي بوجوهٍ لا تشبه بعضها. مرّةً يأتي على هيئة رجلٍ يضع قنديلًا في صدره. ومرّةً يأتي كسلحفاةٍ تحمل على ظهرها مكتبة، ومرّةً يأتي كريحٍ تعرف أسماء كل الذين فكّروا بجدّ في حياتهم مرةً واحدة على الأقل. وأحياناً… لا يأتي. أترك مكانه فارغاً، لكنه لا يبقى فارغاً طويلاً. الفكرة تأتي وتجلس. الذاكرة تأتي وتجلس. الغيمة تأتي وتجلس. كلّ ما يسافر في رأسي يجد هذا المقعد المفتوح فيجلس.
لعلّ هذا هو معنى السيمفلسفة: أن يتحوّل صديقك إلى مقعدٍ دائمٍ في رأسك، وأن تتحوّل أنت إلى عازفٍ أعمى يضرب أوتاراً لا يعرف إن كانت موسيقى أم كسرًا في الهواء.
مرّةً جرّني إلى كهفٍ مليءٍ بصناديق. قال لي إنّها الصناديق التي نخبّئ فيها لحظات الفهم التي لم نستخدمها. فتحتُ صندوقاً. خرجتْ منه رائحة طفولتي. فتحتُ آخر. خرج منه صراخٌ قديمٌ لشخصٍ كنتُ أحبّه ولم أفهمه. فتحتُ ثالثاً. خرجت منه ابتسامةٌ لم أعرف أنها تخصّني.
قال:
– كلّ ما تفهمه يعود إليك في النهاية… ولكن ليس بالشكل الذي تركته عليه.
وباستثناء ظلي، الذي كان يتسكّع على الجدار المقابل، لم يعترض أحد على هذه الفكرة.
نمنا ذات يومٍ في سريرٍ واحدٍ من الغبار. كان الليل يتهجّى أسماءنا بحروفٍ رخوة. سألته:
– هل أنت حقيقي؟
قال:
– أنا الجزء الذي يفهمك عندما لا تفهم نفسك، والجزء الذي لا يفهمك عندما تظن أنك فهمتها كلها.
ثم أضاف:
– لا تبحث عن الحقيقة في صديق حقيقي… ابحث عنها في صديقٍ يختفي حين تحتاجه، ويعود حين تكرهه، ويحمل لك مرآةً لا تظهر وجهك إلا نصفاً.
ضحكتُ دون صوت. كان صوتي ينشغل بتذكّر شيءٍ نسيتُه للتو.
اليوم، وأنا أكتب، أسمعه يدقّ الجدار خلفي. ليس جدار الغرفة، بل الجدار الذي يفصل عقلي عن عقلي الآخر. يقول:
“أكتب. دَع الكلمات تهرب نحو الفجوات. دَع الفكرة تمشي بلا حذاء. دَع هذا العالم يفلت من قبضتك قليلاً.”
لا أعرف إن كنتُ أكتب أم أتذكّر كتابةً كتبتها في وقتٍ لم أعشه. كل ما أعرفه أنّه في اللحظة التي يبدأ فيها الفهم بكسر زجاج النافذة، يأتي اللا-فهم ويضع على رأسي قبعةً من ضوءٍ مائل، ثم يقول لي:
“هكذا فقط تصبح الحياة ممكنة.”
هل نحنُ أفضل حالاً؟
لا أعرف.
وأعرف.
وأجهل معرفتي.
وأعرف جهلي كما يعرف النائم أنّه يقترب من الحلم قبل لحظةٍ واحدة من سقوطه فيه.
ولكني أعلم شيئاً واحداً، شيء يصرخ الآن في صدري مثل طائرٍ واثقٍ من جناحيه:
أنّ حياتي منذ التقيته لم تعد شيئاً سوى هذا العزف الداخلي… هذا التردّد بين فهمٍ يشبه الخطأ، ولا-فهمٍ يشبه الخلاص… وهذه الصداقة الفلسفية التي تتكوّن من نصفين: أحدهما يرى، والآخر يغلق عينه كي أرى بشكلٍ أعمق.







0 التعليقات:
إرسال تعليق