الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، نوفمبر 24، 2025

قراءة في كتاب «Electronic Literature» لـ سكوت رِتْبِرغ عبده حقي

 


لا أعرف لماذا يراودني شعور غريب كلّما أعدتُ فتح كتاب «Electronic Literature» لسكوت رِتْبِرغ؛ كأنني أُقلب صفحات دفترٍ مدرسي قديم، لا كتابًا أكاديميًا متماسكًا. وربما لأن هذا العمل، رغم طابعه البحثي الرصين، يمتلك تلك الروح التي تُذكّر القارئ بأن الأدب، مهما دخل في دهاليز الآلة وتخوم التكنولوجيا، يظل في جوهره مسعى إنسانيا هشًّا يبحث عن معنى وسط ضجيج الشاشات.

يقدّم رِتْبِرغ في هذا الكتاب ما يشبه خريطة أولى، أو قلْ "سجلًّا حيًا" لمسار الأدب الإلكتروني منذ بداياته إلى امتداداته المعاصرة. لكن ما يجعل النص مختلفًا ومغرِيًا للقراءة هو هذا المزج بين الدقة الأكاديمية، واللمسة الإنسانية التي تظهر أحيانًا في ملاحظاته الجانبية، وفي طريقته في سرد تحولات النصوص، كأنها كائنات تتنفس وتشيخ وتتبدّل.

يبدأ الكاتب بتحديد معنى الأدب الإلكتروني بدقّة لا تخلو من مرونة. فهو لا يقدّمه كجنسٍ أدبي منفصل تمامًا عن الأدب التقليدي، بل كامتداد طبيعـي له، تمامًا كما تمتدّ الجذور القديمة لشجرةٍ إلى أرض جديدة لم تكن تعرفها. وهذا التوصيف، في نظري، يفتح بابًا ضروريًا لفهم النقاش الدائر اليوم حول علاقة الأدب بالتكنولوجيا: هل تغيّر التكنولوجيا الأدب جذريًا، أم تمنحه فقط أدوات جديدة ليعيد صياغة أسئلته القديمة؟

الجواب عند رِتْبِرغ معقّد بقدر ما هو شفاف. فالأدب الإلكتروني ليس مجرّد إجراء تقني، بل تجربة جمالية كاملة تستدعي وعيًا جديدًا بالكتابة وبالقراءة معًا. لا وجود للقارئ السلبي هنا. الشاشة تُجبره على الحركة، على التفاعل، على الضغط، على البحث، على إكمال المعنى بنفسه. وهنا تكمن قيمة الكتاب، إذ يضع القارئ أمام سؤالٍ جوهري: هل ما زلنا نقرأ بالطريقة نفسها التي كنا نقرأ بها قبل عشرين عامًا؟

يستعرض الكاتب أنماطًا متعدّدة من الأدب الإلكتروني، من النصوص التشعبية إلى الروايات المتعددة الوسائط، ومن القصائد التفاعلية إلى الألعاب السردية، مرورًا بالواقع الافتراضي وبرامج المحاكاة. وهو لا يكتفي بوصفها، بل يتناولها كظواهر ثقافية تحمل رؤى جديدة للعلاقة بين الإنسان والآلة. ومع أن رِتْبِرغ يحتفظ دائمًا بمسافة نقدية، فإن بعض عباراته تكشف إيمانه العميق بأن التكنولوجيا ليست خطرًا على الأدب، بل فرصة لخلقه من جديد.

ما يشدّ الانتباه في فصول الكتاب هو ذلك الوعي الفلسفي الذي يُذكّر بالقارئ بأنه يتعامل مع مشروع معرفي يتجاوز حدود التخصص. وكأن رِتْبِرغ يكتب في الظلّ، مستندًا إلى "النظرية النقدية المعاصرة": من تحليلات بودريار عن المحاكاة، إلى تصورات دريدا حول تفكيك النص، ومن رؤى ستيفن شانغ وتارنوفسكي في دراسات الوسائط، إلى أسئلة ما بعد الإنسانية عند كاثرين هيلز. كلّ هذه الخلفيات تتحرك تحت السطح، بدون أن يصرّح بها الكاتب كثيرًا، لكنها تمنح الكتاب عمقه النظري.

ومع ذلك، فإن أجمل ما في كتاب «Electronic Literature» هو شيء آخر تمامًا، شيء لا يمكن تلخيصه بسهولة: إحساس خفي بأن رِتْبِرغ نفسه مأخوذ بسحر هذه النصوص الإلكترونية. تراه كأنه القارئ الأول الذي يندهش؛ يندهش من نص يتحرّك، من جملة تنفتح على أخرى، من صورة تستدعي صوتًا، ومن شبكة معانٍ تتولد في كلّ مرة بطريقة مختلفة. وهذا يجعل القارئ يشعر كأنه يرافق الكاتب في رحلة استكشاف، لا أنه يستمع إلى محاضرة جافة.

إن العمل، في جوهره، مساهمة كبيرة في سؤال أعمق: كيف نقرأ في زمن تتحول فيه الكتابة إلى تجربة رقمية؟
وما الذي يبقى من الأدب حين يُصبح النص شاشة تومض بدلاً من ورقٍ مطبوع؟

هنا، يبدو رِتْبِرغ أقرب إلى التوفيق بين عالمين: عالم الورق وعالم الضوء. فهو لا يطرح الأدب الإلكتروني كبديلٍ للأدب الورقي، بل كجناحٍ آخر في جسد الكتابة. وهذا التصور، في رأيي، هو أكثر ما يجعل هذا الكتاب يستحق مكانه في مكتبة كل باحث في النقد المعاصر.

ولعلّ القارئ يخرج في النهاية بانطباعٍ لا يخلو من الدهشة:
أن الأدب، مثل الماء، لا يحتاج سوى حيزٍ جديد ليأخذ شكلاً جديدًا، دون أن يفقد جوهره الإنساني.

وهذا — تحديدًا — هو ما أراد سكوت رِتْبِرغ أن يثبته بقوة لا صخب فيها: أن التكنولوجيا ليست نهاية الأدب، بل بداية فصل مختلف من حياته.

0 التعليقات: