الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

السبت، أكتوبر 04، 2025

الميتافرس في المغرب والعالم العربي: عبده حقي


منذ أن أعلن مارك زوكربيرغ عام 2021 عن مشروع «ميتافِرس» كمرحلة جديدة من تطور الإنترنت، بدأ العالم يدخل تدريجيًا في حقبة تتجاوز الشاشة المسطحة إلى فضاءات ثلاثية الأبعاد حيث يمتزج الحقيقي بالافتراضي.

إن هذه الثورة الرقمية، التي لم تعد خيالًا علميًا، تطرح على المجتمعات العربية والمغربية تحديات وفرصًا غير مسبوقة. فالميتافرس ليس مجرد تقنية، بل منظومة فكرية وثقافية واقتصادية تُعيد تعريف الإنسان، والعلاقات، والتعليم، والهوية، والملكية، والمعرفة.

إن العالم العربي يلج إلى الميتافرس محمّلًا بأسئلته القديمة حول الهوية والانتماء، لكن هذه المرة داخل فضاء بلا جغرافيا. في الميتافرس، يمكن للإنسان العربي أن يخلق "أفاتارًا" يعبّر عنه أو يتخفّى وراءه، مما يفتح الباب أمام تحرّر رمزي من القيود الاجتماعية، لكنه في الوقت نفسه يطرح سؤالًا وجوديًا: هل نحن من نعيد تشكيل هويتنا في الفضاء الرقمي، أم أن الخوارزميات هي التي تعيد تشكيلنا؟

في السياق المغربي، يبرز البعد الثقافي للميتافرس بشكلٍ خاص. فالفنّانون الشباب في الدار البيضاء والرباط ومراكش بدأوا يستثمرون العوالم الافتراضية لعرض أعمالهم الرقمية (NFT)  وتنظيم معارض افتراضية باللغتين العربية والفرنسية، في تزاوجٍ بين التراث المحلي والتكنولوجيا العالمية.

كما بدأت تظهر مشاريع رقمية توثّق الموروث الأمازيغي والموسيقى الكناوية والعمارة المغربية داخل عوالم افتراضية ثلاثية الأبعاد، بما يشبه “متحفًا رقمياً متحركًا” يخلّد الذاكرة المغربية خارج حدود الزمان والمكان.

لكن هذا التحوّل يحمل في طيّاته خطرًا ثقافيًا آخر: الهيمنة الرمزية الغربية داخل الميتافرس. إذ تسيطر الشركات الأميركية والآسيوية على بنية العالم الافتراضي، مما يجعل اللغة والثقافة العربية مهدّدتين بالتهميش إن لم يُستثمر هذا المجال في إنتاج محتوى عربي أصيل. وهنا تبرز الحاجة إلى رؤية سيادية رقمية تحمي الذاكرة والخيال العربي داخل الميتافرس.

من أكثر المجالات التي سيُحدث فيها الميتافرس ثورةً جذرية هو التعليم. ففي حين ما زالت الجامعات العربية والمغربية تعاني من ضعف التجهيزات الرقمية، يفتح الميتافرس الباب لتجربة تربوية جديدة قوامها التفاعل والانغماس الحسي والمعرفي.

في هذا الفضاء، لا يكتفي الطالب بالاستماع إلى الدرس، بل يعيش المادة العلمية بشكلٍ مجسّد: يدخل إلى قلب الخلية في درس البيولوجيا، أو يتجوّل في أطلال قرطبة في مادة التاريخ، أو يحاكي التجارب الفيزيائية في مختبرٍ افتراضي دون مخاطر أو تكاليف.

في المغرب، بدأت بعض الجامعات الخاصة ومراكز البحث التكنولوجي في تجريب بيئات تعليمية ثلاثية الأبعاد، خاصة في مجالات الهندسة، والذكاء الاصطناعي، والطبّ، والعمارة.

كما تتجه وزارة التعليم العالي نحو إدماج “التعلّم المدمج” الذي يجمع بين الفصول الواقعية والمنصّات الافتراضية، وهو ما قد يفتح الطريق أمام مشروع “جامعة مغربية في الميتافرس” مستقبلاً — جامعة مفتوحة أمام الطلبة من داخل المغرب وخارجه، تمثّل الجيل الثالث من التعليم الرقمي.

لكن التحدي هنا ليس تقنيًا فقط، بل بيداغوجيا وفلسفيا. فالميتافرس يعيد تعريف العلاقة بين المعلّم والمتعلّم:

لم يعد المعلّم مركز المعرفة، بل أصبح موجّهًا داخل بيئة يتعلّم فيها الطالب من التجربة والخيال والتفاعل. وهنا يُطرح سؤال كبير على المدرسة العربية: هل هي قادرة على التحوّل من ثقافة التلقين إلى ثقافة الاكتشاف؟

الاقتصاد هو المحرّك الخفي للميتافرس. ففي عام 2024 تجاوزت الاستثمارات العالمية في هذا القطاع 100 مليار دولار، وتشير التقديرات إلى أنه سيخلق ملايين الوظائف الجديدة في مجالات البرمجة، التصميم، إدارة الأصول الرقمية، والعقارات الافتراضية.

الدول الخليجية مثل الإمارات والسعودية بدأت مبكرًا في هذا السباق؛ فقد أطلقت دبي إستراتيجية الميتافيرس “Metaverse Strategy” بهدف خلق 40 ألف وظيفة رقمية بحلول 2030.

أما في المغرب، فإن التحوّل ما زال في بدايته، لكن المؤشرات واعدة. فهناك اهتمام متزايد من الشركات الناشئة المغربية بتطوير محتوى ثلاثي الأبعاد، وتنظيم مهرجانات فنية وسياحية رقمية تستهدف الجاليات المغربية في الخارج.

كما يُتوقَّع أن يستفيد المغرب من مكانته كبوابة إفريقية وأوروبية في السياحة الافتراضية، عبر بناء تجارب رقمية تتيح للزائرين جولة في فاس أو الصويرة أو الصحراء المغربية من داخل الميتافرس.

إن هذه المبادرات قد تُعيد رسم خريطة الاقتصاد الثقافي المغربي، وتفتح أفقًا جديدًا أمام الصناعات الإبداعية والذكاء الاصطناعي المحلي.

 

إلا أن التحدي الاقتصادي الأكبر يتمثل في فجوة البنية التحتية والمهارات الرقمية. فالميتافرس يحتاج إلى إنترنت فائق السرعة، وحوسبة سحابية متقدمة، وكفاءات برمجية قادرة على إنتاج المحتوى المحلي. من دون ذلك، سيبقى العرب — والمغاربة ضمنهم — مستهلكين في عالمٍ يُفترض أن يكون مجالًا للإنتاج والإبداع.

تثير تجربة الميتافرس قضايا أخلاقية جديدة: من يملك الأصول الرقمية؟ من يحمي الهوية الشخصية داخل الفضاء الافتراضي؟ كيف نضمن حرية التعبير دون انزلاق إلى الفوضى الرقمية؟

في العالم العربي، لا تزال التشريعات متأخرة عن هذه الأسئلة. القوانين الرقمية تركز على الجرائم الإلكترونية التقليدية، بينما الميتافرس يخلق مشكلات جديدة مثل التحرّش الافتراضي، والملكية الفكرية للرموز، وحماية الأطفال من العوالم المزيّفة.

من هنا تظهر الحاجة إلى “فقهٍ رقمي عربي” جديد — بمعناه القانوني والثقافي — يضع أسسًا أخلاقية للتعامل مع الإنسان الافتراضي كما وضع الفقهاء الأوائل قواعد التعامل مع الإنسان الواقعي. فالميتافرس ليس مجرد سوقٍ أو منصة، بل هو فضاء جديد للعيش والتفاعل، يتطلّب من المفكرين العرب والفلاسفة والمشرعين صياغة مفاهيم جديدة للحرية والمسؤولية داخل العالم الرقمي.

لكي يتحوّل الميتافرس من ظاهرة مستوردة إلى مشروع عربي أصيل، لا بد من رؤية شاملة ترتكز على ثلاث ركائز:

سيادة رقمية ثقافية: دعم المحتوى العربي في المنصات الافتراضية، وتشجيع الفنانين والمبرمجين المحليين على إنتاج سرديات رقمية تعبّر عن التراث والخيال العربي.

تعليم رقمي منغمس: بناء مناهج تعليمية تُدخل الطلبة إلى عوالم الميتافرس بشكل نقدي وإبداعي، بدل الاكتفاء بالاستهلاك التكنولوجي.

اقتصاد ميتافيرسي مغربي: تشجيع الاستثمار في السياحة الافتراضية، والصناعات الثقافية الرقمية، والابتكار المحلي في تقنيات الواقع الممتد (XR)، بما يعزّز موقع المغرب كمركز إفريقي متقدم في الابتكار الرقمي.

الميتافرس ليس مجرّد تطوّر تقني، بل انعطافة أنثروبولوجية في مسار الإنسان. إنه يفتح أمام العربي والمغربي إمكانيات جديدة لتجديد علاقته بالزمان والمكان والخيال، لكنه في الوقت نفسه يضعه أمام مسؤولية ثقيلة: هل سنكون منتجين في هذا الكون الرقمي أم مجرد ظلالٍ فيه؟

 

إنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في اقتناء الخوذات أو بناء المنصات، بل في بناء الوعي النقدي والثقافي القادر على استيعاب هذه الثورة دون أن يذوب فيها.

فالميتافرس، في نهاية المطاف، ليس “ما وراء الكون” بقدر ما هو مرآة جديدة للإنسان العربي في رحلته الطويلة بين الواقع والخيال، بين الصحراء والبيكسل، بين الذاكرة والمستقبل.

0 التعليقات: