تبدو السلوكية، في جوهرها، كأنّها نداء قديم يأتينا من مختبرات القرن الماضي، نداءٌ يُذكّرنا بأنّ فهم الإنسان يبدأ من مراقبة خطواته الصغيرة قبل الغوص في تعقيداته الداخلية. وكلّما حاولت أن أتأمل هذا التيار، أجد نفسي أقترب منه كما يقترب شخص من نافذة ضبابية يحاول أن يرى من خلالها شيئاً يتشكّل ببطء.
لم تكن تجارب بافلوف مجرّد وقائع علمية، بل كانت نقطة التحوّل التي دفعت كثيرين إلى الاعتقاد بأنّ السلوك يمكن ضبطه وتوجيهه مثل آلة موسيقية تستجيب عند اللمسة الصحيحة. أما واطسون، فقد بدا أكثر جرأة حين أعلن أن الإنسان ليس سوى مزيج من مثيرات تُطلق استجابات يمكن التنبّؤ بها. كان ذلك الطرح صادماً، لكنه حرّك شيئاً في النقاش العلمي، شيئاً أقرب إلى رغبة في إعادة النظر فيما نعدّه عميقاً بطبيعته.
ثم جاء سكينر، وربما أكثر ما بقي في ذاكرتي منه هو إصراره على أن التعزيز، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، قادر على إعادة تشكيل السلوك كما تُعاد صياغة قطعة طين بين يدي نحّات صبور. وما يجعل السلوكية مثار تفكير دائم هو ذلك التوتر الجميل بين بساطتها المعلنة وعمق الأسئلة التي تثيرها. فهي تسأل، بطريقة غير مباشرة:
هل أفعالنا امتدادٌ لقراراتنا، أم امتدادٌ لظروف سبقتنا وصاغت اختياراتنا دون أن نشعر؟
وإذ أتأمل هذا السؤال، أجد أن السلوكية لا تنفي التعقيد بقدر ما تقترح مدخلاً آخر إليه. إنها تُذكّرنا بأنّ ما يبدو بديهياً قد يكون مبنياً على تاريخ طويل من التعزيزات، وأنّ ما نراه تلقائياً قد لا يكون كذلك تماماً.
وربما يكمن جمال هذا التيار في أنّه لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يقدّم إطاراً ينظّم ما يحدث أمام أعيننا بطريقة تسمح لنا بفهمٍ أكثر هدوءاً لسلوك البشر. وفي زمن تتعدد فيه النظريات وتتسارع فيه محاولات تفسير الإنسان، تظلّ السلوكية واحدة من تلك المقاربات التي لا تفقد قدرتها على إيقاظ الأسئلة مهما بدا العالم منشغلاً بأشياء أخرى.







:max_bytes(150000):strip_icc()/pavlov-5b42e777c9e77c0037fb1a21.jpg)
0 التعليقات:
إرسال تعليق