الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 18، 2015

الكتابة من الألواح الطينية إلى الألواح الإلكترونية

الكتابة من الألواح الطينية إلى الألواح الإلكترونية
كتب : عبده حقي
خاص بندوة " الكتاب و أزمة القراءة في العالم العربي "التي نظمها اتحاد كتاب المغرب،فرع مدينة تازة يوم 10 ماي 2015
تقديم
ولدت الكتابة من حيث ولدت أولى الخربشات الآدمية منذ آلاف السنين على حيطان الكهوف والمغارات ... ولدت بجرة ضفر تلقائية على الجدار.. ثم بالنقش على الصخربحد النصل أوبالتخطيط برأس البرعم على طراوة الطين ... كانت تلك الخربشات البدائية هي أولى العلامات لكي تكتشف الذات ذاتها من خلال تشكل الوحدات الخطية للأبجدية الأوغاريتية والمسمارية والهيروغليفية ..إلخ ثم صارت الكتابة هي نظاما من الرموز اللغوية ذات إحالات محددة قابلة للتواصل والفهم وحفظ المعلومات.
كانت أول علامة منحوتة إعلانا عن ولادة الرمزية في تاريخ الإنسانية وعن إنبثاق شجرة فاكهة المعنى والدلالة .. كان فعل حفرونقش أول علامة أيضا إعلانا عن تدشين خزائن الذاكرة لمقاومة تراجيديا الغياب وفضاعة الموت أي كانت رغبة أنطولوجية من أجل تخليد الأنا وبالتالي صارت العلامة التي تحولت فيما بعد إلى كلمة شفهية ثم مسطورة عبر مرالعصورهي أعظم ما اخترعه الإنسان من أجل تخليد ذاكرته وتراثه المعرفي وتوثيق هويته في كل أبعادها الأنتربولوجية الشاملة... الكتابة بهذا المعنى صارت ممارسة .. سلوكا .. ونشاطا فكريا وذهنيا إنسانيا بامتياز.. هي تارة خربشة ترميزية وتارة عبورا إلى مدارات الخلق والإبداع المكين وتارة أخرى توثيقا لشهادة الميلاد حين يدشن القلم مغامرته الأولى في النزول إلى معاركة النص وهي أخيرا شهادة وفاة لقلق الموت حين يعلن النص عن أول حرف لبداية حياته ...
لاكتابة إذن من دون يد كاتب تنتصب قامته على منصة تقوم على دعامات الذاكرة والذهن واللغة والسند.
ذاكرة الكاتب باعتبارها ذلك المنجم المترع بالصور، بالخيال ، بالإفتراضات ، بالإحتمالات ، بالانكسارات وبالتطلعات ... والذهن باعتباره حارس تدفق الأفكاروانسيابها الشعري حتى لاينزاح التعبيرعن وادي المواضعات والتوافقات الجمالية .. وهناك دعامة اللغة باعتبارها أذاة الكاتب وعصب عملية الكتابة وموضوعاتها .. اللغة التي لايمكن أن تقوم للكاتب ولاللكتابة هوية وخصوصية من دونها .. لكن في المقابل لاجدوى ولاحياة وهذه الأقانيم كلها ـــ الذاكرة ــ الذهن ـــ اللغة تقف خارج رقعة السند الذي تسطرعلى مساحته رسالة الكاتب والكتابة .. أية كتابة في مختلف ضروب أغراضها ومستوياتها الأدبية والمعرفية والجمالية وأهدافها البراغماتية .
في البدء كانت الكلمة .. في البدء كان السند .
كان على يد الإنسان أن تخترع سندها ⁄  حاملها الذي سوف تتجلى من خلاله الكلمة المسطورة . لذلك جاءت أولى النصوص المنحوتة تلقائيا على الطين الرخوالذي كان يجفف تحت الشمس أوعلى جلود الحيوانات وألواح الأحجاروعظام الإبل وأوراق البردي وأخيرا على الورق الذي إخترعه الصينيون من لحاء الشجروالقماش .
ويعتبرالمخطوط الموسوم ب«زينة الكتبة»حول صناعة الكتاب في العالم العربى الذي كشف عنه الدكتورمحمود زكى الباحث بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة، من أهم الآثارالتي تؤرخ لتاريخ الكتاب في العالم العربي . إن هذا المخطوط يرجع تأليفه الى القرن الرابع الهجري، ويصف فيه مؤلفه، الطبيب والكيميائى الشهير أبوبكر محمد بن زكريا الرازي، كيف كان العرب يصنعون الكتاب قديما، بداية من صناعة الأحبار، مرورا بالأحبارالسرية وحيل الكتابة، وانتهاء الى وصفات قلع آثار الحبر من الورق والبردى والرق (الجلد) والثياب الخ.. إن هذه المعلومات تبدوضرورية من أجل معرفة مكونات المخطوطات التى وصلتنا وكيفية دراستها وصيانتها وترميمها فهى تجيب عن سؤال: كيف كان العرب قديما يصنعون المخطوطات فعليا دون تصورات أو افتراضات نظرية، هذا فضلا عن التوثيق الحضارى والتاريخى لبواكير صناعة الكتاب العربى أو ما يعرف بـ«الوراقة» وهى تقابل إنتاج الكتاب بالمفهوم الحديث.: (المصدر:تهانى صلاح اكتشاف مخطوط مجهول للرازى عن صناعة الكتاب العربى الأهرام اليومى بتاريخ 30 مايو2011)
في سنة 1436 إخترع غوتنبرغ المطبعة وكان ذلك الإختراع نقطة تحول في تاريخ البشرية حيث إنتقلت الكتابة من عصرالكتابة المخطوطة إلى عصرالكتابة المطبوعة مما جعل من الممكن نشرنسخ كثيرة من عمل واحد وفي وقت واحد.
أما عن دخول المطبعة إلى المغرب فقد جاء في كتاب الدكتورالباحث مصطفى بن عمرالمسلوتي الموسوم ب«القاضي الطيب بن محمد التملي الروداني ودخول المطبعة إلى المغرب» أن السيد الطيب ذهب لحج بيت الله الحرام سنة 1864م وعند عودته عرج على مصر، فاشترى بها مطبعة حجرية، وعقد مع طابع مصري يدعى القباني عقدة لمدة سنة من أجل تشغيل المطبعة في مدينة تارودانت» «
وعندما وصلت السفينة التي أقلت السيد الطيب مع القباني إلى ميناء الصويرة في شتنبر 1864م أخبر أمين المرسى القباج الذي كان يدعى بالفرنساوي، قائد المنطقة عبد الله أوبيهي السوسي بأمرها، فكاتب هذا الأخير السلطان يستفسرعن الإجراء الواجب القيام به.فأصدرالسلطان أمره بنقل المطبعة مع الطابع إلى مدينة مكناس حيث كان يقيم» ( نشر بجريدة التجديد يوم 18 - 07 – 2013)
بعد إختراع المطبعة ظل الكتاب منذ خمسة قرون هوالسند المهيمن في كل الحضارات الإنسانية في تقدمها كما في إنهيارها وكرس حضوره الرمزي والمعنوي والمادي باعتباره حاملا وناقلا في نفس الوقت للمعرفة والعلوم الإنسانية والتعاليم المقدسة لكل الأديان السماوية والعبادات الأرضية... وبالتالي رسخ نفعيته المعرفية وقدسيته لكونه كان السند الأوحد لتبادل المعرفة والحافظ الأمين لكلام الله عزوجل... غيرأن التقدم الصناعي والتطورالعلمي وارتقاء هذا التطورإلى ولوج البشرية عصرالتقانة منذ القرن الثامن عشروعصرالتكنولوجيا منذ بداية القرن العشرين وعصرالتكنولوجيا الفائقة مع ظهورالرقميةNumérique قد أسهم في إبتكارأسانيد أخرى للنشرأهمها الحواسيب الألكترونية أوالكومبيوترالثابت منذ الأربعينات من القرن الماضي ، وكان هذا الجيل الأول من الحواسيب يتسم بضخامة الحجم والبطئ الشديد ويحتاج أيضا إلى قاعات واسعة وتجهيزات خاصة ، وكانت إجراءات التعامل معه معقدة جدا تحتاج إلى متخصصين في المجال .وفي عام 1981م أنتجت شركة آي بي إم I.B.M أول جهاز شخصي أطلقت عليه جهاز الكمبيوتر الشخصي أي بي إم I.B.M Personal Computer ثم ظهربعد ذلك الحاسوب المحمول وأخيرا الألواح الإلكترونية . ويعود إختراع أول لوحة إلكترونية إلى شهرشتنبرمن سنة 1989 وكانت تسمى GRID PAD إخترعتها مؤسسة GRID SYSTEME CORPORATION والتي أنتجتها شركة سامسونغ وقد تم إستعمالها بداية في بعض المؤسسات العامة مثل الأمن والجيش بسبب إرتفاع سعرها الذي كان يصل إلى ثلاثة آلاف دولار...
بعد ذلك تعددت الحوامل الإلكترونية من حواسيب مكتبية شخصية وألواح إلكترونية مختلفة الأحجام ، وإذا كان شركة أمازون قد دشنت حاملها الأول (كيندل) منذ سنة 2007 فإنه يمكن التأريخ للقراءة الإلكترونية قبل هذا التاريخ بعشر سنوات حيث تم إختراع الحاسوب المحمول ثم حاسوب الجيب من طرف ميكروسوفت في أبريل سنة 2000 ثم ظهرت فيما بعد الهواتف الذكية الأولى (السمارتفون ) من إختراع شركتا نوكيا وسوني إيريكسون  كما إخترعت شركة آبل لوحة صغيرة رقمية (آيفون) وهوأول جهازبشاشة لمسية (TACTIL) متعددة الخدمات وهوالجهازالذي تم تطويره بعد سنوات قليلة ليصبح فيما بعد جهاز آيباد سنة 2010 .
كيف أثرت هذه الأسانيد الإلكترونية في فعل القراءة والنص الأدبي على الخصوص ؟
يمكن التأريخ لعلاقة النصوص الأدبية بالتكنولوجيا منذ إنطلاق مشروع غوتنبرغ سنة 1971 الذي كان هدفه بالأساس الدفع بالنشرالإلكتروني على أوسع نطاق وأوسع قاعدة شعبية وعالمية بحيث صارهذا المشروع هوأول مكتبة رقمية في العالم . من جهته فقد أسهم اختراع الإنترنت بشكل أوفرفي نشرالظاهرالأدبية منذ سنة 1983 بعد ربط مراكزالبحث والجامعات الأمريكية فيما بينها . ويعتبر"فانتان سيرف vinton cerf هوالأب الروحي للإنترنت إلى جانب بوب كان Bob kahn إذ هما اللذان إخترعا بروتوكولا خاصا بقاعدة تبادل المعطيات TCP/IP " transmission control protocol/internet protocol. غيرأنه إذا كان الإنترنت قد أسهم كثيرا في تعميم مختلف الإنتاج الفكري والمعرفي والأدبي فإن إختراع "الويب Web" الشبكة العنكبوتية كان بحق هوالعامل الأساسي الذي سوف يخلخل بنية النص الأدبي وسوف يحدث ثورة غير مسبوقة في تاريخ الظاهرة الأدبية على مستوى جسد الكتابة وإنتاج المعنى أيضا وبالتالي على مستوى عمليتي القراءة . فلم يعد النص الإبداعي الأدبي نصا جامدا تحدد وحدته خطية الكتابة ثم فعل القراءة في إتجاه مسارسردي مستقيم يشبه النهر، يبدأ كما هو مألوف من نقطة بداية إلى نقطة نهاية ، بل صارالنص عبارة عن نسيج يشبه الدلتا تتخلله عدة روابط تشعبية ملونة تفرض على الكاتب والمتلقي التوافق بداية على تعاقد إقرائي جديد تمنح بموجبه مسارات التشعبية للمتلقي إستقلالية أوسع في العزف على أزرارالروابط حسب ذائقته الخاصة بمعنى آخرأن التشعبية جعلت من النص فضاءا سرديا يشبه فضاء المدينة التي تتخللها البوابات نحوشوارع وأزقة في كل الإتجاهات بدل النص التقليدي الذي يشبه مسلكا مستقيما ذا بداية ونهاية .
النص التشعبي ونظرية موت المؤلف
إن حرية المتلقي التي فرضها إستثمارالعقد التشعبية أدت إلى ظهورمفهوم موت المؤلف ليس بالمعنى البنيوي البارتي الذي تتلخص نظريته في أن اللغة هي التي تعمل عملها في النص وليس هناك دورا حقيقيا للمؤلف وبالتالي يمتلك القارئ ناصية النص تأويلا وتفسيرا بعيدا عن سلطة المؤلف وإنما نعني هنا بموت المؤلف ظاهرة النص الجديد الذي أنتجته صناعة الأدب الرقمي وتشعباته الكتابية وتنويعاته السمعية البصرية ومختلف المؤثرات الإلكترونية .. .
لقد أصبح المتلقي شريكا في إنتاج النص الأدبي بعد إنخراط الظاهرة الأدبية في مستجدات التكنولوجيا وأسانيدها وحواملها والإنترنت وكونيته والويب وتشعباته مما أدى إلى خلق جنس أدبي جديد يسمى ب (الأدب الرقمي) الذي يمتح بنياته ومعماره السردي من تلاقح الأدب وإمكانيات الرقمية والأسانيد الإلكترونية ... فقد أخرجت الرقمية النص من سنده الورقي الجامد على صفحات الكتاب المرقمة في متوالية عددية تسلسلية لاتقبل القفزعلى صفحة منها إلى نص مفتوح على افتراضية سردية وعلى لعب التشعبية وأيضا على توليفة من بنيات دالة جديدة إيبيرميدية مثل الصور المتحركة والفيديو والصوت وغيرها مما أدى إلى "قلب الكثيرمن المصطلحات والمفاهيم المتعارف عليها في النظريات والإتجاهات النقدية الحديثة ومن بينها البلاغة الأسلوبية . فإذا كانت البلاغة الأسلوبية للنص الأدبي تقاس بقدرة الكاتب على توظيف الكلمة لتوليد المعنى والأفكاروالصورالفنية وكذلك بقدرته على الإقناع والحجاج ، فقد أصبحت اليوم تقاس وفق معاييرأخرى وآليات مستجدة ... فلم يعد الكاتب يكتب بالكلمة فقط بل أصبح بإمكانه أن يتوسل بوسائل أخرى للتعبير فيوظف اللون كرمزوالحركة والموسيقى والصورة ، كما أصبح بمقدوره أن يضمن نصه بعض الروابط فيجعل منه لوحة فسيفسائية تتداخل وتتشابك فيها نصوص كثيرة وهو مابات يعرف ب"الهيبيرتيكست" أي النص الجامع لأجناس . وقد ذهب بعض النقاد أبعد من هذا المصطلح فسموه ب" الفن الفائق archiart " أي النص الجامع للفنون كلها بحيث تتظافرفيه كافة أنواع الفنون (تقنيات الصورة والتشكيل البصرى : موقع رمضان بسطاويسي)
في عام 1994 أطلقت دارالنشرالإلكترونية "إلياس Ilias سلسلة مولدات نصوص إسمها "توليد génération  لتظهرأخيرا أولى تخييلات النص التشعبي على أقراص مرنة أو مدمجة .( المصدرموقع محمد أسليم ألان فيلمان: الأدب والمعلوماتية. من الشعر الإلكتروني إلى الروايات التفاعلية / ترجمة: محمد أسليـم)
وإذن فثمة أدب جديد كان بصدد النشأة ولكن تسمياته غيرمؤكدة "هل هوأدب إلكتروني أم سيبيرنطيقي أم تكنولوجي أم وسائطي أم تشعبي أم معلوماتي ؟ تتعدد التسميات والأوصاف التي تعكس الطبيعة الأصلية والتجديدية لهذه الأشكال الإبداعية التجريبية المعاصرة . وهو تعدد يترجم عدم إطمئنان الملاحظين تجاه ظاهرة تبدوغريبة كليا عن المقولات والفئات الأدبية المعروفة . ومع ذلك فبملازمة هذه التجليات الأولى يتضح أن أشكالا جديدة من الكتابة الوسائطية قد بدأت في الظهور. لم يعد الأدب هو ماينشربالكتب فقط بل هناك الآن أدب ذو طبيعة جديدة لايمكن إكتشافه واستكشافه والإستمتاع به بدون جهاز الحاسوب ، فضلا عن أن هذا الأدب نفسه لايمكنه أن يوجد دون وسيط معلوماتي . (محمد أسليم المصدرنفسه ) ولايمكننا أن نتحدث عن هذه الظاهرة الأدبية بمعزل عن الطفرة التكنولوجية كما لايمكننا أن نتحدث عن أدب رقمي من دون الإستناد إلى الآليات والأدوات الضرورية للإبداع الرقمي من دون نص أدبي وسند إلكتروني وبرمجيات وربط بالإنترنت وبطارية أوكهرباء . لقد صارالنص الأدبي ليس بالمفهوم المتداول لجيرارجينيت وإنما بمفهوم الويب الذي يمكنه من النشوء بواسطة النظام الرقمي وعلى الخصوص بواسطة ربط الإنترنت والشبكة المعلوماتية .
البذورالإبداعية الأدبية الأولى على الإنترنت
منذ سنة 1978 ظهرت أولى الحواسيب الشخصية المتوفرة على شاشات خاصة مما سهل على الكاتب إدراج عنصرالصورة في بنية النص الأدبي وقد إنصب التفكيرعلى دورالصورة بنفس قدرالإهتمام بالنص المرقون كما صاربالإمكان أيضا ( تحريك ) ANIMATIONبمعنى إدراج الحركة في النص بواسطة عامل تركيب الصورالمتحركة ، وبفضل تقدم ( الأنفوغرافيا ) وتوظيف المعلوميات في الإبداع البصري / المرئي والفني إنشرعت حقول أخرى جديدة للبحث لتضفي على مظهرالكتابة بواسطة آليات التنقيل والتبديل للمادة الأدبية على الواجهة , لكن بالرغم من هذه التحولات الرقمية ظل مصدرالإيحاء دائما تقليديا , ففي البداية كان الرواد أمثال (جون ماري دوتي) و(فرانسوا دوفولاي) و(تيبورباب) و(فيليب بوتز) يشتغلون على النصوص المخطوطة باليد وقد إنحصرالعمل المعلومياتي في المظهرالبصري على مستوى حركة الكلمات والجمل وعلى تنقيلاتها ومرورها ولولبتها وتضعيفاتها , وقد تم تعميم ونشرهذه المحاولة التجريبية سنة 1984 و1985 خصوصا خلال المعرض الذي أقيم في فرنسا بمركز(جورج بومبيدو) والذي خصص لتيمة ( اللاماديات ) . أما أول مجلة شعرية وتحديدا المجلة المتخصصة في النصوص المتحركة الإلكترونية هي مجلة ( لير) التي تم إطلاقها سنة 1989 من طرف مجموعة ( ألير) وموازاة مع التطورالكنولوجي تمكن الكتاب من إستيعاب التغييروإحداث مؤثرات المحاكاة والتقطيع والإضافة إلى جسد المادة الأدبية ، ومن مقاربة لأخرى ضمن أبحاث ودراسات المجلة تم تأسيس مايسمى بجمالية ( الميتامورفوز)
ومنذ أن أصدر ميشيل جويس أول "رواية تفاعلية" في العالم بعنوان "الظهيرة، قصة" في عام 1986، مستخدمًا برنامجا خاصا بكتابة النص المترابط ، توالت بعد ذلك الروايات التفاعلية في الأدب الغربي، وظهر ذلك جليا في بعض التجارب مثل تجربة "بوبي رابيد" في الرواية التفاعلية وروبيرت كاندل في الشعر التفاعلي ونقصد هنا بالتفاعلية خاصية العلاقة القائمة بين المتلقي والبرنامج الذي يتم بموجبه ‘إنتاج النص الرقمي ... إنها قدرة المتلقي الممكنة من جهة ومن جهة أخرى إلزامية تشغيل البرنامج ... إنها أخيرا القدرة التي يمتلكها المتلقي لكي يؤثرفي نسق العلامات المقترحة للقراءة .
في أواخرسنوات التسعينات ظهرت العديد من الأجناس الأدبية الرقمية الحديثة : كتابة متعددة الوسائط ، كتابة ترابطية ، رواية ذات وسائط المتعددة ، روايات المايل ... بعض الكتاب جربوا ولازال الآخرون يجربون الإمكانات التي توفرها الروابط وانغمروا في تجربة كتابة المسلسلات عبرالبريد الإلكتروني وكمثال على ذلك نسوق تجربة ( جان بيير بالب) ، الكاتب والباحث والمنظر للآداب الرقمية ومدير شعبة تعدد الوسائط في جامعة باريس الثامنة . فقد كتب لمدة مئة يوم ماسمي ب ( رواية المايل ) وهي عبارة عن يوميات كان يرسلها لعائلته وأصدقائه وزملائه ، وقد أدرج فيها أيضا أجوبة وردود فعل القراء . هذه التجربة تؤكد بدون شك بأن التقنولوجيا الرقمية هي عصا سحرية من أجل تجديد وتحديث وتطوير المادة الأدبية .
أما في مطلع سنة الألفين فقد أصدر الروائي الأمريكي ستيفن كينج روايته Ridding The Polit عبر شبكة الإنترنت بالتعاون مع شركة أمازون.كوم ، إلاّ أنّ كينج هذا لم يستخدم التقنيات الرقمية في بناء روايته هاته بل اكتفى فقط بنشرها رقمياً على الشبكة عوضاً عن نشرها في كتاب ورقي كالعادة وبالتالي فهو لم يأت بجديد إلاّ في مجال النشرالرقمي.
في العالم العربي تعود الريادة في هذا المجال إلى الأديب الأردني محمد سناجلة الذي أنتج ثلاث روايات رقمية طليعية هي "شات" و"صقيع" و"ظلال الواحد" التي إعتبرت فتحا عربيا جديرا بالتنويه والتقديروالتوشيح والإحتفاء ، باعتبارها أعمالا سردية رقمية وضعت الإبداع الروائي العربي في سياق عصره الذي يتسم بانخراط كل أشكال الإبداع الأدبي والفني والتشكيلي في دورة الرقمية ومستجدات التكنولوجيا كما يمكن الإشارة بهذا الصدد إلى أعمال الشاعرالعراقي مشتاق عباس معن والقاص المغربي محمد شويكة والقاص الرقمي هشام عينو، إلا أنه رغم مرور أكثر من عشرسنوات على تجربة محمد سناجلة في رواية الواقعية الرقمية لايمكننا اليوم أن نتحدث عن نظرية نقدية خاصة قائمة بجهازها المفاهيمي وأدوات تحليلها ومنهجيتها الخاصة التي تلتقي في مختبرها السردي نظرية الأدب وجمالية الرقمية .
نحوفعل قراءة جديد لأدب رقمي جديد .
حين ينكتب النص ويستقيم معماره ويستوي جنسه ويحدد خطابه ويشرع نوافذه على أفق إنتظاره يكون قارئه المفترض أيضا قد أعلن عن جاهزيته لتشغيل آليات القراءة قصد استكناه النص واستغواردلالاته وتفكيك خطابه . فهل إنخراط النص الأدبي في مستجدات التكنولوجيا والرقمية قد خلق بدوره قارئا جديدا قادرا على التفاعل مع هذا النص وفق قواعد إقرائية يحددها شرط التشعبية وتفريعاتها وتفرضها الوحدات القائمة على عناصرالعقد والصورة المتحركة والإيبيرميديا السمعية البصرية وغيرها . ؟ تقول الأديبة والناقدة الرقمية لبيبة الخمار في كتابها الأخير"شعرية النص التفاعلي آليات السرد وسحرالقراءة ص 195" إن تطورالقراءة من مجرد شكل بسيط للتواصل إلى تفاعل ونشاط منتج ولد مجموعة من المفاهيم المتعلقة بمحفل القارئ مثل القارئ الكاتب ، الكاتب المشارك أو الكاتب من الدرجة الثانية " وتضيف في مقطع آخر في نفس الصفحة "تحدد المشاركة الوجه الجديد الذي يتخذه القارئ جاعلة منه كاتبا مشاركا لايقتصر دوره على النقروتنشيط الروابط ومشاهدة المعنى كأي متفرج من الخارج بل يساهم إلى جانب الكاتب في بناء هذا المعنى من خلال إختياراته الحرة وتجميعه للشذرات وفق نسقه الخاص متحولا إلى كاتب من الدرجة الثانية لاشتغاله على اللغة محايلا وملاعبا إياها وصولا إلى ماتخبئه بين طياتها من معان ثانوية ."
وتقول الدكتورة زهوركرام في مقال لها بعنوان ""تقنية الضفيرة في النص الترابطي" الذي صدربجريدة القدس العربي بتاريخ 22 دجنبر2014 : لقد بات مع الأدب الرقمي ووحدة نصه القائمة على تفريعات العقد الترابطية وافتراضات المعاني من خلال إختيارات النقرعلى الروابط مما يترتب عن ذلك إنتقال موقع القارئ من موقع تابع أومرافق إلى موقع الفاعل في تحقق نصية المادة الترابطية .
يبدو إذن مما سبق قوله عن فعل الترابط النصي أن الشبكة العنكبوتية والرقمية وابتكارات التكنولوجيا بقدرما أتاحت لظاهرة الكتابة والظاهرة الأدبية على الخصوص عناصرالتحقق والوفرة في الفضاء التواصلي الإفتراضي المشاكس للفضاء الواقعي فإنها قد قامت بالأساس على دمقرطة جل مظاهرالعلاقات المجتمعية وجل تجليات الحواربين الأشخاص والفضاءات الرمزية ... وقامت أساسا على قيمة التكافؤ في التشارك في بناء مقومات الحياة الإنسانية المادية والعنوية والرمزية والإبداعية ... لم تعد علاقة الكاتب بالقارئ علاقة إستعلاء نابعة من سلطة رمزية الكتابة وخطية فعل القراءة وخضوعه للآليات التي يشتغل بها النص "لتوقيع شعريته وشعرية تلقيه من جهة أخرى ... لقد بات بإمكان القارئ اليوم من خلال تفاعله مع النص الرقمي أن يحدد رحلة القراءة في جغرافية النص بمعنى أن يمارس حقه الديموقراطي وشراكته في إنتاج النص المفترض أي أن النص الرقمي الأدبي بات نصا مفتوحا على جميع احتمالات الشكل والمعنى ...
من فعل الكتابة الرقمية إلى فعل القراءة الإلكترونية المتعددة
مما لاشك فيه أن التكنولوجيا قد أثرت إيجابا وسلبا أيضا في علاقتنا بذواتنا وعلاقتنا بالآخروبالمحيط على مستوى التواصل المجتمعي والشعوربالإنتماء الطبقي وعلى مستوى طي المسافات وتحقيق المتعة الحسية والإرتقاء بالوعي الفردي والجمعي وتغييربعض عاداتنا القديمة في إكتساب المعرفة والحصول على المعلومة ... كما أسهمت أيضا في إغترابنا وبناء علاقاتنا الحميمية على الإستجابة لإمكانياتها وخدماتها .
ولعل أن أهم إختراعات التكنولوجيا في العصرالحاضربعد إختراع الحاسوب المكتبي والحاسوب المحمول كان إختراع الهاتف الجوال والألواح الإلكترونية "الآيباد" التي جعلت الإنسان قادرا على إنجاز العديد من الخدمات الإدارية والتواصلية والإعلامية والعلمية خارج إرتباطه التقليدي بالفضاءات العامة لتنفيذ ذلك ولعل أن تطورالهاتف الجوال كان بحق أهم إختراع تنافست في تطويره التكنولوجي والرقمي وماتزال أشهرالشركات العملاقة في العالم كيما يرتقي هذا الجهازالسحري إلى درجة العضوالآدمي الوظيفي والأساسي الملتصق بنا في كل لحظة وحين من أجل تدبيرمجريات حياتنا اليومية كما تمكننا تطبيقاته المتعددة من التواصل والإطلاع على آخرالأخبارفي مواقع القنوات العالمية وتصفح الجرائد الإلكترونية والتعرف على آخرالمستجدات عن حالة الطقس ومواقيت القطارات وأسعارالعملات والحسابات البنكية والأخبارالسريعة والتقاط الصورالتذكارية وتسجيل الفيديوات لأغراض شخصية وإعلامية وتحميل الكتب الإلكترونية والولوج إلى المواقع الثقافية والأدبية وإرسال الرسائل النصية القصيرة وغيرها ...
إن ما يميزوقتنا الراهن على مستوى إبتكارات تكنولوجيا التواصل والمعرفة هوإختراع أجهزة الهواتف الذكية والآيباد الذي لم يكن مخصصا لمهمة القراءة الإلكترونية في البداية بمفهومها الثقافي الأدبي والعلمي كما هوالحال عند جهازأمازون الذي يسمى "كيندل " والذي يشتهرعلى أنه رائد القراءة إلإكترونية " فلم يعد مفهوم القراءة يقتصرعلى صفحات الورق بما أن هذه الأجهزة الإلكترونية تقدم لنا نفس المؤثرات وبتطيقات ذات جودة فائقة وممتعة حتى تلك التي تتعلق بتقليب الصفحات مثلما نقوم بتقليبها بين دفتي مذكرة أوكتاب ورقي . لقد أصبح بإمكان أي إنسان أن يخزن في حاسوبه اللوحي العشرات من الدواوين والروايات والمجاميع القصصية والدراسات النقدية والبحوث العلمية ، هذا فضلا عن إمكانيته اللامحدودة في كل وقت وحين لتشغيل محركات البحث قصد الحصول على معلومة أدبية أوالولوج إلى مواقع المكتبات العالمية .
فبعد أن جعلت الرقمية من النص الأدبي نصا مفتوحا على تعدد القراءات البصرية واللغوية وأتاحت للقارئ أيضا حرية التجوال في مساراته السردية عبرالنقرعلى الروابط التشعبية بمعنى آخرمنحت للقارئ المفترض إمكانية إنتاج نصه الخاص وفق تصورجمالي ووفق مراهنته على أفق إنتظاره الخاص ، فإن هذه الأجهزة الإلكترونية (الآيفون والسمارتفون والآيباد ) قد جعلت الكاتب من جهة أخرى خيرجليس حقيقي للقارئ يرافقه أينما حل وارتحل ويستجيب لدعوة الإنصات إليه وقتما كان هذا القارئ الشريك في حاجة إلى تصفح أعمال الكاتب الأدبية ... أليس باستطاعتنا اليوم أن نقرأ روايات نجيب محفوظ الإلكترونية ونحن في وضعياتنا الشخصية المختلفة إما في القطارأوفي الباص أوالطائرة أوالمقهى أوفي قاعة الإنتظاردونما حاجتنا إلى حمل هذه العشرات من المجلدات الثقيلة في حقائب السفرأومحافظنا ؟ أليس باستطاعتنا اليوم تحميل دواوين شعرية قديمة وحديثة أوالإصغاء إلى الدواوين المسموعة لأبي الطيب المتنبي ولبيد بن أبي ربيعة وأن ننصت لهمس شهرزاد وهي تحكي لنا قصص ألف ليلة وليلة المسموعة أونشنف مسامعنا بأشعارمحمود درويش ونزارقباني وتشغيل ملفاتها على السمارتفون والأيباد بل والتفاعل معها من خلال توثيق شهاداتنا وتعليقاتنا أسفلها بكل حرية ومن دون رقابة ؟ أليس باستطاعتنا اليوم أن نقرأ في موقع إلكتروني مقالة نقدية أوقصيدة شعرية أوقصة قصيرة لكاتب مغربي وفي نفس الوقت يمكننا أن نهاتفه من الجهازنفسه للتنويه بعمله أوللتعليق على فكرة من أفكاره أوعقد موعد معه ؟ وأخيرا أليس باستطاعتنا أن نلج أي مكتبة أوأكاديمية رقمية للإطلاع على مصنفات تراثية وكتب لمؤلفين عالميين أمثال تولستوي وجيمس جويس ومارسيل بروست وغارسيا لوركا وماركيز وبورخيص وغيرهم في أي وقت وحين وفي أي مكان يكفي فقط أن نتوفرعلى جهازآيفون أوالسمارتفون أوآيباد مزود ببطارية ومتصل بالإنترنت وفضاء هادئ ومريح للتفاعل مع هذه المؤلفات ؟
في المقابل إذا كانت هذه الوفرة وهذا الفائض إن لم نقل هذا التسونامي المعلوماتي والمعرفي الذي بات يغمرنا في كل يوم بالجديد من الإبداعات الفنية والأدبية والتشكيلية والموسيقية والسينمائية بسهولة ومن دون عناء بحث مضن وطويل في فضاءات القراءة التقليدية مثلما كان الأمرقبل ظهورالشبكة العنكبوتية واختراع الحوامل الذكية ، ألسنا مجبرين من جانب آخرعلى التفكيرفي تغييرأنماط عاداتنا وسلوكاتنا الفردية والإجتماعية والتفكيرالجدي والهادف في تحديث مناهجنا البيداغوجية والنقدية والتثقيفية من أجل الوقاية من حالة طمس الهوية والتشتت الذهني وفقدان التركيز ونحن نمارس عاداتنا المختلفة في تشغيل هذه الوسائط بحيث نقوم بالعديد من الخدمات في نفس الوقت ونحن موزعين بين  الولوج إلى مواقع التواصل الإجتماعي والإستماع إلى الموسيقى والرد على المكالمة الهاتفية وإرسال الرسائل النصية القصيرة ومشاهدة التلفازأوالتحدث مع صديق وقراءة الجريدة الورقية كل هذا في نفس اللحظة ... أليس لهذا التشتت الذهني والسلوكي دورا سلبيا في حرماننا من التمتع بجمالية وفتنة النص الأدبي وانغمارنا الصوفي في فضاءاته الرمزية والفكرية مثلما كان الأمربعلاقتنا بالكتاب الورقي قبل عشرين سنة وهويستفرد بنا ونستفرد به في البيت أوالحديقة أوعلى ربوة ساكنة ؟
الهوامش:
تهانى صلاح اكتشاف مخطوط مجهول للرازى عن صناعة الكتاب العربى الأهرام اليومى بتاريخ 30 مايو2011
2  جريدة التجديد يوم 18 - 07 – 2013
 3 تقنيات الصورة والتشكيل البصرى : موقع رمضان بسطاويسي
4  ألان فيلمان: الأدب والمعلوماتية. من الشعر الإلكتروني إلى الروايات التفاعلية / ترجمة: محمد أسليـم
 5 المصدرنفسه

0 التعليقات: